لكن الله كان قد أتم يومئذ كلمته على لسان عيسى، وكان قد أعد حوارييه ليذيعوا هذه الكلمة في الأرض، لا يحتفظون بها لأنفسهم كما فعل أسلافهم من قبل. فلما توفى الله عيسى ورفعه إليه، خيل لقومه من بني إسرائيل أنهم قد آن لهم أن يطمئنوا إلى عقائدهم، لكن بذور الثورة التي بثتها كلمة عيسى في الناس دفعت بني إسرائيل أنفسهم لينتقضوا على حكم روما وليثوروا بها. •••
وبلغ الانتقاض أوجه بعد أربعين سنة من وفاة عيسى، عند ذلك ذهب تيطس فسبازيان من روما إلى فلسطين، وأقسم ليخضعن بني إسرائيل وليضربنهم بيد من حديد. وقاومت فلسطين جيوشه مقاومة عنيفة، يقول جوريفومل مؤرخ ذلك العصر، وكان يعيش فيه: «الآن ولم يبق أمل في الخلاص، فذلك أوان القتال حتى الموت، فمن الشجاعة أن يقدم الإنسان المجد على الحياة، وأن ينهض إلى عمل نبيل تذكره الأجيال من بعده.»
قال المؤرخ هذه الكلمة البالغة في سموها يوم كان أنين شعب إسرائيل، لمظالم الرومان وقسوتهم، قد بلغ غاية مداه، لكن جيوش روما التي ألفت الظفر لم تصدها المقاومة، بل سارت من مدينة إلى مدينة تقتل الناس وتحرق البلاد وتشيع في الأرض الفساد، فلم يكن لصدها سبيل. وحاصر الروم بيت المقدس، فقاومتهم وطالت مقاومتها حتى تفشى بين أهلها المرض بسبب الجوع، ثم أسلمت مفاتيحها إلى الفاتحين. (5) هدم الهيكل
دخلت جيوش روما بيت المقدس، فهدمت الهيكل وأعملت السيف في رقاب أهلها، وأسرت من بني إسرائيل كل من لم يمت وأجلتهم عن المدينة، بل أجلتهم عن فلسطين كلها، فتشتتوا في البلاد المجاورة.
ذهب منهم من ذهب إلى العراق، وانحدر منهم من انحدر إلى شبه جزيرة العرب، وعاد منهم من عاد إلى مصر، وانحل عنهم ذلك السلطان الذي كانوا يعتزون به، وأصبحوا لا يعرفون لهم وطنا ولا مستقرا. •••
أجلاهم المسلمون عن شبه جزيرة العرب في العهد الأول للدين الحنيف، بعد منازعات وحروب بين هؤلاء وأولئك، ونظر إليهم المسيحيون في مختلف بقاع الأرض نظرة متأثرة بما كان بين اليهود والمسيح، مما انتهى إلى قصة الصلب في كتب المسيحية المقدسة. وأبى عليهم الناس جميعا أن يستقروا في بقعة من الأرض تكون وطنا لهم، ذلك شأنهم منذ ألف وتسعمائة سنة، وذلك شأنهم إلى يومنا الحاضر، وبنو إسرائيل خلال هذه المحن لا يزال حنينهم إلى أرض المعاد كحنين أجدادهم الأولين، ولا يزال رجاؤهم متصلا في أن تعود إليهم دولتهم، وأن يكونوا في الأرض الحاكمين.
من أجل هذا الذي أصابهم يبكي اليهود وينوحون، ومن أجله يذهب المقيمون منهم ببيت المقدس بعد الظهر من يوم الجمعة أو صبح السبت كل أسبوع على مدار السنة، حتى إذا بلغوا بقية جدار الهيكل وقف ربانيهم على رأسهم يذكر ما أصابهم من هدم هيكلهم وقتل رهبانهم وذهاب ملكهم، فتسيل لذلك دموعهم، ويهوي الحزن بقلوبهم إلى قرار سحيق، ثم يضرعون إلى الله أن تعود دولتهم ليكونوا في الأرض الحاكمين.
1
هوامش
الفصل الرابع
صفحة غير معروفة