169

الإلياذة

تصانيف

وفي لحظة واحدة سحب كل منهما بيديه رمحه الطويل، وهجما، كأسدين ضاريين، أو كخنزيرين بريين متوحشين، لا تني قواهما. وانقض ابن بريام بكل قواه على أياس برمية من رمحه، بيد أن الرمح البرونزي لم يشق طريقه، إذ التوى طرفه، ولكن «أياس» انقض على غريمه وطعن درقته، فنفذ الرمح خلالها، وجعله يترنح تحت هجمته. ثم بلغ عنقه، وجرحه، فتدفق منه الدم القاتم.

وبالرغم مما حدث فإن هكتور - ذا الخوذة البراقة - لم يكف عن القتال، بل تراجع إلى الخلف، وبيد قوية أمسك بحجر أسود ذي نتوءات - كان ملقى في السهل - وقذف به نحو ترس «أياس» الهائل ذي الطبقات السبع من جلد الثور، التي يحيط بها البرونز. وهنا رفع أياس - بدوره - يده عاليا، ممسكا بحجر أضخم، وقذفه بقوة عظيمة، فشق الحجر - الشبيه بحجر الطاحون - الدرقة من الداخل، وهوى على ركبتي هكتور، فإذا هكتور يستلقي على ظهره مكوما تحت ترسه. بيد أن «أبولو» رفعه في الحال. وأوشك المتحاربان أن يلتحما بالسيوف، لولا قدوم رسولي زوس والبشر - أحدهما موفد من الطرواديين والآخر من الآخيين ذوي المدرعات البرونزية - وهما «تالثوبيوس» و«أيدايوس». وكلاهما من الحكماء. فأقبلا وفرقا بين الطرواديين بصولجانيهما. وخاطبهما الرسول «أيدايوس» ذو الرأي الرشيد، قائلا: «كفا عن القتال يا ولدي العزيزين، ولا تتعاركا؛ لأن كليكما حبيب إلى زوس، جامع السحب، كما أن كلا منكما رماح، وكلنا يعلم ذلك يقينا. وعلاوة على ذلك، فإن الليل مقبل علينا الآن، ومن الخير أن تخضعا لحكم الليل.»

فرد عليه أياس التيلاموني بقوله: «أيا أيدايوس، مر هكتور بأن ينطق هو بهذه الألفاظ؛ إذ إنه هو الذي تحدى خيرنا ودعاه للنزال. فليكن هو البادئ وعندئذ أستمع أنا بدوري لما يقول.»

عندئذ تحدث إليه هكتور العظيم، ذو الخوذة البراقة، فقال: «أياس، أما وقد حباك الرب بالقوة والقامة، والحكمة أيضا، وبرمحك اشتهرت بالتفوق على جميع الآخيين، فلنكف عن القتال والصراع اليوم، على أن نعود إليه فيما بعد، إلى أن يحكم الرب بيننا، ويهب أحد الفريقين النصر. وعلى أية حال، فالليل قد أقبل علينا، ومن الخير أن ننصاع لحكم الليل، حتى تدخل الفرح والسرور على جميع الآخيين بجانب سفنهم، لا سيما الأنساب والأصحاب المنتمين إليك، كما أنني في جميع أرجاء مدينة الملك بريام العظيمة، سأدخل السرور على جميع رجال طروادة ونسائها ذوات الثياب الفضفاضة، اللواتي سيدخلن على جميع الآلهة لتقديم صلاة الشكر من أجلي. والآن تعال، وليقدم كل منا للآخر هدايا عظيمة، حتى يقول الكثيرون من الآخيين والطرواديين، على حد سواء: «لقد تقاتل الاثنان بحق، وتباريا في صراع يلتهم الأنفس، ولكنهما اتفقا فيما بعد وافترقا صديقين»!»

وما إن قال هذا حتى أحضر سيفه المرصع بالفضة، بغمده وحمائله البديعة الصنع ، وقدمه له. فأعطاه «أياس» حزامه اللامع القرمزي. وهكذا افترقا؛ أحدهما في طريقه إلى جيش الآخيين، والآخر ساعيا إلى جموع الطرواديين. فتهلل هؤلاء طربا إذ أبصروا هكتور مقبلا إليهم سليما معافى، على قيد الحياة، وقد نجا من بطش «أياس» ويديه القويتين، فذهبوا به إلى المدينة غير مصدقين أنه قد نجا! ... أما أياس فقاده الآخيون المدرعون جيدا إلى «أجاممنون» العظيم، والفرح يملأ نفوسهم لانتصاره.

فلما بلغوا أكواخ ابن أتريوس، ذبح لهم ملك البشر «أجاممنون» ثورا ذكرا في الخامسة من عمره، من أجل زوس بن كرونوس، المتفوق في القوة. فسلخوه وأعدوه، وبتروا جميع أطرافه. ثم قطعوا لحمه بمهارة إلى شرائح، وضعوها في السفود وشووها بعناية، ثم أخرجوها من السفافيد. وما إن انتهوا من عملهم وأعدوا الطعام، حتى مدوا السماط، وأكلوا كفايتهم من الوليمة الحقة. وتكريما لأياس، أعطاه «أجاممنون» - الواسع الحكم، والابن المحارب لأتريوس - سلسلة الظهر الطويلة.

الهدنة

وبعد أن شبع الجميع، وفترت رغبتهم في الطعام والشراب، أخذ «نسطور» الشيخ يلقي عليهم النصائح، وهو الذي اشتهر بالحكمة منذ القدم، فخاطب جموعهم وتحدث وسطهم قائلا: «يا ابن أتريوس، وأيها الأمراء رؤساء جيوش آخيا، إن الأسف ليحز في نفسي لموت كثير من الآخيين ذوي الشعر المسترسل. وقد سفك «أريس» - الممعن في القتل - دماءهم القاتمة حول نهر سكاماندر المعتدل الجريان، وهبطت أرواحهم إلى بيت هاديس؛ لذا أرى من الأفضل أن توقفوا معركة الآخيين عند بزوغ الفجر. ولسوف نجتمع هنا لننقل الجثث بالعربات التي تجرها الثيران والبغال، ونحرقها على مسافة بسيطة من السفن، حتى يستطيع كل رجل أن يحمل عظامها إلى أطفال الضحايا عندما نعود ثانية إلى وطننا. ولنقم حول كومة الحريق مدفنا واحدا للجميع، ونرفع حوله سورا عاليا. حصنا لنا ولسفننا، ولنجعل فيه أبوابا تغلق بإحكام، كي تكون مسالك نقود خلالها العربات، ولنحفر خندقا عميقا في الخارج ملاصقا للسور، يدرأ عنا العربات والمشاة إذا ما حمي وطيس هجوم الطرواديين ذوي البأس علينا.»

هكذا تكلم، فوافق جميع الملوك على قوله. وكذلك عقد الطرواديون اجتماعا مماثلا في قلعة طروادة ، ضم حشدا صاخبا هاج وماج بجوار أبواب بريام، فقام أنتينور الحكيم خطيبا فيهم، وكان أول من تكلم، فقال: «أيها الطرواديون والداردانيون والحلفاء، استمعوا إلي إذ أحدثكم بما يوحى به إلى قلبي الكائن في صدري. تعالوا الآن، فلنسلم هيلينا الأرجوسية وما معها من كنز، إلى أبناء أتريوس كي يذهبوا بها. إننا نقاتل الآن بعد أن ثبت حنثنا بمواثيق الإخلاص، فإذا لم نفعل ما أشرت به، فلا أمل في أن يتم شيء لصالحنا!»

وما إن قال هذا حتى جلس، فقام في وسطهم «باريس» العظيم، زوج هيلينا ذات الشعر الفاتن، ورد على قوله بألفاظ مجنحة. فقال: «أي أنتينور، إن ما قلته لا يسرني على الإطلاق، فأنت تعرف كيف تدلني بعبارات خير من هذه. أما إذا كنت جادا فعلا فيما تقول، فلا بد إذن من أن تكون الآلهة نفسها قد أتلفت عقلك. وعلى أية حال، فإني سأتكلم وسط حشد الطرواديين مستأنسي الخيول، وأعلن في الحال أنني لن أعيد زوجتي. أما الأموال التي أحضرتها من أرجوس إلى وطننا، فإنني عازم على ردها كلها، بل سأضيف إليها من خزائني.»

صفحة غير معروفة