166

الإلياذة

تصانيف

هكذا قالت الخادمة، فأسرع هكتور منصرفا من البيت، عائدا من حيث أتى، عبر الشوارع الجميلة. فما إن بلغ البوابة التي اعتزم أن يمر منها إلى السهل - بوابة «سكاي» - مارا خلال المدينة العظيمة، حتى هرعت إلى لقائه زوجته الكريمة، أندروماخي، ابنة أيتيون الكبير القلب. الذي كان يعيش في سفح جبل بلاكوس الكثيف الغابات في طيبة، وكان ملكا على كيليكيا، فلقد كان هكتور ذو الدرع البرونزي متزوجا من ابنته. وها هي ذي الزوجة تقابله الآن ومعها مربية تحمل إلى صدرها الولد الغض الإهاب، الذي لا يعدو أن يكون طفلا رضيعا، ابن هكتور الحبيب. وكأنه نجم ساطع. ولقد اعتاد هكتور أن يسميه «سكاماندريوس». بينما كان الآخرون يسمونه «أستواناكس»؛ لأن هكتور وحده كان يحرس طروادة. عندئذ ابتسم هكتور وهو ينظر إلى ولده في صمت، ولكن أندروماخي اقتربت منه وهي تبكي، وأمسكت بيده، قائلة: «أواه يا زوجي، لسوف توردك جرأتك هذه حتفك. إنك لا تشعر بأي شفقة نحو طفلك الرضيع، ولا نحوي، أنا المسكينة التي أوشك أن أغدو أرملتك؛ إذ لن يلبث الآخيون أن يتكاثروا عليك ويصرعوك. أما أنا، فخير لي أن أحمل إلى القبر إذا فقدتك؛ إذ لن تكون لي - إذا لقيت حتفك - راحة، بل ويلات. أنا التي فقدت أبي وأمي. أما أبي فقد قتله أخيل العظيم؛ لأنه خرب مدينة الكيليكيين الآهلة بالسكان طيبة الشاهقة الأبواب. غير أنه إذا كان قد قتل أيتينون، فإنه لم يجرده من حلته - لأن روحه فزعت من ذلك - بل أحرقه في كامل عدته الحربية، الفاخرة الزينة، وأهال عليه تراب القبر، وزرعت حول القبر أشجار الدردار، زرعتها حوريات الجبل بنات زوس حامل الترس، وفي نفس اليوم دخل إخوتي السبعة الذين كانوا تحت سقفنا إلى دار «هاديس» - الجحيم - لأن أخيل العظيم السريع القدمين، قتلهم جميعا وسط أبقارهم السمينة وأغنامهم الناصعة الفراء. أما والدتي، ملكة سفح جبل بلاكوس المكسو بالغابات، فقد أحضرها إلى هنا مع بقية الغنيمة، ولكنه أطلق سراحها فيما بعد، عندما تسلم عوضا عنها فدية لا تحصى. غير أن «أرتيميس»، حاملة القوس، قتلتها في دار والدها! وها أنت لي الآن يا هكتور، أبي، وأمي، وأخي، وزوجي المقدام. فتعال الآن وارأف بحالي، وابق بجوار الحائط، لئلا تيتم ابنك، وترمل زوجتك. أما جيشك، فأوقفه بجوار شجرة التين البرية، وهو خير مركز تغلق منه المدينة، فالحائط عرضة للهجوم. لقد أقبل إلى هذه البقعة أعظم الشجعان، ثلاث مرات، في صحبة البطلين «أياس»، وأيدومينيوس المجيد، وأبناء أتريوس، وابن توديوس المقدام، وقاموا بمحاولة للدخول: فإما أن يكون أحد مهرة العرافين قد دلهم عليها، وإما أن تكون أرواحهم قد أرشدتهم إلى الهجوم من هناك.»

وإذ ذاك قال هكتور العظيم ذو الخوذة البراقة: «أيتها المرأة، إنني أفكر في كل ذلك أيضا، ولكني أخجل خجلا بالغا من الطرواديين، ومن زوجاتهم ذوات الثياب الجرارة، إن تنحيت بعيدا عن المعركة كالجبناء. كما أن قلبي لا يستطيع احتمال ذلك. فقد تعلمت أن أكون شجاعا دائما، وأن أقاتل بين الطرواديين في الصفوف الأولى، مناضلا للفوز بمجد أبي العظيم، ومجدي أنا. وإنني لأعلم في قرارة نفسي، علم اليقين، وفي روحي كذلك، أن سيأتي اليوم الذي تخضع فيه طروادة المقدسة، وبريام وشعب بريام ذو الرمح العظيم، المصنوعة قناته من خشب الدردار. ومع ذلك، فلست أهتم كثيرا بأحزان الطرواديين المقبلة، وحزن هيكوبي، ولا بحزن الملك بريام، أو حزن إخوتي العديدين الشجعان الذين سوف يتردون في الثرى على أيدي أعدائهم، بقدر ما يؤلمني حزنك يوم يقودك بعيدا أحد الآخيين ذوي الدروع البرونزية، ويسلبك حريتك، وأنت تبكين. وقد يحملك على الانكباب على المغزل في أرجوس أو حمل الماء من ميسيس أو هوبيريا على غير رغبة منك، تحت عبء الحاجة القصوى. وقد يراك امرؤ ما، وأنت تبكين، فيقول: «هاكم زوجة هكتور، الذي فاق جميع الطرواديين مستأنسي الخيول، في جميع فنون القتال، يوم حمي صراع الرجال حول طروادة.» هذا ما سوف يقال، وسيتجدد حزنك عندما تفتقدين رجلا مثلي يدرأ عنك يوم العبودية، فلأمت، وليهل الثرى علي، قبل أن أسمع صراخك وهم يسوقونك إلى الأسر!»

ما إن قال هكتور هذا حتى مد ذراعيه لابنه، ولكن هذا ارتد صارخا إلى صدر مربيته، الجميلة الزنار، وقد أخافه منظر والده العزيز، واستولى عليه الرعب من البرونز وخصلة شعر الخيل، عندما أبصر بها تهتز فوق الخوذة. فقهقه أبوه المحبوب وأمه الجليلة. وفي الحال خلع هكتور المجيد الخوذة من على رأسه، ووضعها تتألق فوق الأرض. ثم قبل ابنه العزيز، وهدهده بين ذراعيه، واتجه بالدعاء إلى زوس وبقية الآلهة، قائلا: «أي زوس، أيها الآلهة الآخرون، هل لولدي هذا أن يشب مثلي، ويبرهن كما برهنت أنا، على أنه قد أصبح مبرزا بين جميع الطرواديين، ومقداما في سطوته، وأن يحكم على طروادة بيد من حديد؟ وهل للناس أن يقولوا عنه ذات يوم عند أوبته من الحرب: «إنه قد بز أباه ...» وهل له أن يحمل الغنائم الملطخة بالدماء، التي ينالها من قتلاه الأعداء، وهل لقلب أمه أن يفرح جذلا؟»

هكتور وباريس يعودان للقتال!

قال هذا، ثم وضع طفله بين ذراعي زوجته العزيزة، فضمته إلى صدرها العطر، مبتسمة ودموعها تتساقط، فتحركت عاطفة زوجها إشفاقا عليها، وربت عليها بيده، قائلا لها: «أي زوجتي العزيزة، أتوسل إليك ألا تتركي نفسك نهبا لأحزان قلبك، فلن يستطيع رجل أن يرسلني إلى حتفي، قبل ساعتي! وليس غير الموت عندي أمرا لا مهرب منه لامرئ، جبانا كان أم شجاعا، ما جاء إلى الدنيا! ... فهيا أسرعي إلى الدار واشغلي نفسك بأعمالك، النول والمغزل، وأصدري أمرك إلى خادماتك بالمثابرة على أعمالهن، أما الحرب فللرجال، للجميع، ولي أنا خاصة، دون كافة رجال طروادة!»

هكذا تكلم هكتور المجيد، وتناول خوذته التي تعلوها خصلة من شعر الحصان، وانطلقت زوجته العزيزة إلى منزلها في الحال، وهي تنظر خلفها بين الحين والآخر، وتذرف دموعها غزيرة. وسرعان ما وصلت إلى القصر المنيف لهكتور قاتل الرجال ، حيث وجدت خادماتها الكثيرات، فأثارت بينهن موجة من البكاء والعويل. وهكذا ندب هكتور في بيته وهو ما زال على قيد الحياة، إذ جال بمخيلتهن أنه لن يعود من المعركة أبدا، ولن يفر من أيدي الآخيين سليما!

وكذلك لم يتلكأ «باريس» طويلا في بيته السامق، بل ارتدى عدته الحربية المجيدة، المصفحة بالبرونز، وأسرع خلال المدينة معتمدا على خفة قدميه. وكجواد كان مربوطا إلى مذوده فأكل كفايته، ونزع الوتد وانطلق يعدو فوق السهل - متلهفا إلى الاستحمام في النهر الرقيق الجريان - مبتهجا شامخا برأسه عاليا، ومن حول كتفيه ينسدل عرفه متموجا، يزهو بعظمته، إذ تحمله قوائمه بسرعة إلى حظائر ومراعي الأفراس، هكذا أيضا كان باريس بن بريام، فهبط من جبل بيرجاموس الشامخ، يتلألأ في حلته كأنه الشمس الساطعة، ضاحكا من فرط سروره، وقد حملته قدماه السريعتان. وعلى ذلك سرعان ما لحق بأخيه هكتور العظيم، وهو يوشك أن يئوب من المكان الذي داعب فيه زوجته. فابتدره ألكساندر شبيه الإله، بقوله: «أخي، ما من شك في أني أعوقك عن إسراعك بتلكئي الطويل؛ إذ لم أحضر إليك في الوقت المناسب كما أمرتني.»

فرد عليه هكتور، ذو الخوذة البراقة، قائلا: «أيها الرجل الغريب الأطوار، ما من رجل سليم العقل يستطيع أن يحط من قدر بلائك الحسن في القتال، فإنك مقدام، ولكنك بمحض إرادتك متراخ لا تعبأ بشيء؛ ولذلك فإن الحزن يحز في قلبي بين جنبي، عندما أسمع عبارات الاحتقار من شفاه الطرواديين الذين يعانون بسببك نصبا مؤلما. هيا ننطلق إلى حال سبيلنا، وسنصلح فيما بعد هذه الأمور لو قيض لنا زوس أن نقيم في قصورنا للآلهة الخالدين ولائم الخلاص، عندما نطرد الآخيين المدرعين جيدا، من أرض طروادة!»

الأنشودة السابعة

وأوشك المتحاربان أن يلتحما بالسيوف. لولا قدوم رسولي «زوس» والبشر؛ أحدهما موفد من الطرواديين، والآخر موفد من الآخيين ...

صفحة غير معروفة