وأما القافية فليست من لوازم الشعر في كل اللغات، فالفرنسوية لا يصلح شعرها بدون قافية والإنجليزية فيها الشعر المقفى وغير المقفى، ومثلها الإيطالية والألمانية، فبهذا الاعتبار نقلت الإلياذة إلى لغات الإفرنج بالشعر المقفى كترجمة بوب، والشعر غير المقفى كترجمة منتي، وأما الأصل اليوناني فهو موزون غير مقفى وقافية كل بيت قائمة بنفسها لا تراعي فيها المماثلة لأية قافية كانت من القصيدة أو النشيد.
القوافي في لغة العرب
والعربية لا يصلح شعرها بدون قافية؛ لأنها لغة قياسية رنانة يجب أن يراعى فيها القياس والرنة، وفيها من القوافي المتناسبة ما يتعذر وجود نظيره في سائر اللغات، فلا يسوغ لها أن تبرز عطلا مع توفر ذلك الحلي الشائق، فإذا اقتصر الإفرنج على صوغ شعره كالرجز العربي لكل شطرين قافيتان متناسبتان ينتقل منهما إلى غيرهم، واضطر إلى تكرارهما بعد حين أو لو اختار أن يعري شعره من القوافي بتاتا، فعذره في ذلك أن لغته هكذا خلقت، بل لو أجهد نفسه في مواضع كثيرة لتعذر عليه تعزيز قافيتين بثالثة، والشاعر العربي بخلاف ذلك، فإن كثيرا من ضروب القوافي تنهال عليه انهيال الغيث، وإذا انحبست فلا تنحبس إلا لقصر باع أو لقرع باب ضيق أو لتجاوزه الحد في إطالة القصيدة المنظومة على قافية واحدة.
تناسب القوافي والمعاني
وقوافي الشعر كبحوره يجود بعضها في موضع، ويفضله غيره في موضع آخر وحسبك دليلا أن جميع قراء الشعر يطربون لبعض القوافي دون البعض الآخر، وإذا نظم شاعر واحد قصيدتين على بحر واحد بمعنى واحد، ونفس واحد، فلا ريب أن القافية الغناء تميل بالسامع إلى إيثارها على أختها، ولا ريب أن اختيار قافية القصيدة أبعد مثالا من اختيار بحرها، وذلك بنسبة ما يربو عدد القوافي على عدد البحور والمرجع في ذلك إلى سلامة الذوق وغزارة المادة، فالقريحة الجيدة في غنى عن أصول توضع لها بهذا المعنى لو فرضنا من الممكن وضع مثل هذه الأصول، فهي من نفسها تقع على القافية والبحر بلا جهد ولا تردد. ومع هذا فلا بأس من إيراد بعض ملاحظات تتراءى للناظم أثناء النظم، وللقارئ أثناء المطالعة.
الشعر كالنغم الموسيقي والقافية رسته أو قراره، فحيثما جاد النغم وتناسق إلى منتهاه حسن وقعه في الأذن وانشرح له الصدر، وطربت له النفس، فكل نغم أطرب أرباب الصناعة وذوي الأذن السماعة، فهو الحسن، وهكذا الشعر فلا يحسن وقعه في نفوس قرائه وسامعيه ما لم يكن جيدا، وقد يستهان بالمعنى البليغ لضعف قافية أو وقوعها في غير موضعها.
القوافي الضيقة والثقيلة
وأول ما يجدر بالشاعر اجتناب القوافي الصعبة الضيقة، فإنه يضطر معها إلى استعمال الكلام المنبوذ والوحشي المهمل، ويضيق في وجهه باب التصرف بالمعاني على ما يتصورها، فيعضل عليه النظم وعلى قارئه الفهم، ولنضرب لذلك مثلا نابغة من نوابغ الشعراء أبا الطيب المتنبي. فخذ قصيدته التي مطلعها:
أمساور أم قرن شمس هذا
أم ليث غاب يقدم الأستاذا
صفحة غير معروفة