ذكر سقراط وأفلاطون وغيرهما أن المنشدين كانوا يتهافتون إلى مجتمعات الناس في أثينا وسائر مدن اليونان فينشدون ما حفظوه من الإلياذة وغيرها، وكان قيام هؤلاء المنشدين بين العامة والخاصة من لوازم كل احتفال وطني وعيد ديني. فتقام لهم في أثينا وساقس وتيوس وأرخمينا، ومدائن أخرى أسواق كسوق عكاظ ومربد البصرة يتناظرون فيها، وتعد لهم الجوائز السنية فيحرزها المبرز منهم، ويحرص عليها حرص الفائز بإكليل الغار بعد الانتصار، ولطالما كان يجنح الواحد منهم إلى التغني ببطل معين أو رواية مخصوصة، فيفني العمر بإلقائها حينا بعد حين على ما هو اليوم شأن القصاصين في مصر، وبر الشام، والأقطار العجمية، ويؤخذ على ذلك دليل من نفس هوميروس إذ أنطق أوذيس في الأوذيسية (ن 9 - 12) بما يربو على ألفين ومئتي بيت نفسا واحدا. على أنه لا يلزم مما تقدم أن راويا واحدا ينشد الإلياذة كلها أو يحفظها لهذا الغرض.
وقد أسهب متفرد
14
وغروت
15
وغيرهما في ذكر الأدلة الساطعة على إمكان بقاء الإلياذة محفوظة في الأذهان قبل شيوع الكتابة مما لا متسع لنا لنقله، وحسبنا إيراد شيء من الأدلة الحديثة منها، وما يتصل بأزماننا مما يرتاح إليه قراؤنا ولا سيما العرب منهم.
العميان وإنشاد الشعر
بحث فوريل
16
في الأغاني اليونانية في الأعصر الأخيرة، فقال في مقدمته: «أنها لا تزال على ما كانت عليه في سالف الزمن، والغريب أنها بقيت مهنة العميان، وهي مهنة تحببهم إلى الناس بل تجعل لهم مقاما ذا نفع بالنظر إلى حالة الأمة وأخلاقها وتصوراتها، وشأنهم التنقل من بلد إلى آخر فيطوفون أطراف بلاد اليونان وجزرها وهمهم استظهار جميع ما وسعه ذهنهم من الأشعار والأناشيد القديمة والحديثة، فكلهم يعرف منها شيئا كثيرا، ويبلغ ما يحفظه بعضهم إلى حد الغرابة والإعجاز. فإذا ذخروا هذه الأغاني، فإنما ادخروا كنزا ثمينا يطوفون به فيلقونه بضاعة ذات قيمة وحيثما حلوا اجتمعت الناس إليهم، فيأخذون في الإنشاد بما وافق المقام ويتعيشون بما ينفحهم به مستمعوهم، وهم في الغالب يؤثرون الإنشاد بين عامة الناس؛ لأن العامة أكثر إقبالا عليهم وأقل تعنتا في انتقاء المواضيع، ولا يزالون كما كانوا لعهد هوميروس يتغنون على نغم القيثارة أو الكنارة ، وهم فئتان: فئة تنشد محفوظها من شعر الشعراء، وهي الفئة الكبرى، وفئة قليلة تنشد من محفوظها ومنظومها وهي أرفع منزلة وأوسع جاها، وهكذا فإن هؤلاء المطربين هم الآن كما كانوا في القدم رواة الأخبار والتواريخ وشعراء الأمة».
صفحة غير معروفة