وخلاصة القول أن هوميروس كان له شأن مذكور عند نقلة الكتب من بطانة الخلفاء، ولكن إلمام أدباء العرب بأقواله كان إلماما ناقصا بقي منحصرا في أفراد معدودين من كبار الكلدان. وأما منظوماته فالثابت أنها لم تعرب.
منظوماته
نقصر الكلام في هذا الباب على الإلماع إلى ما نسب لصاحب الإلياذة من الشعر مما ثبت له ومما لم يثبت، وأما البحث في شعره من حيث هو وأساليبه وطرائق نظمه وتشابيهه واستعاراته وفائدة ذلك للعلم والتاريخ والآداب، فنستبقيه إلى الكلام على الإلياذة بعيد هذا.
إن لهوميروس منظومات كثيرة لا غرو أن يكون المفقود منها شيئا كثيرا، فإن العلماء ما زالوا حتى الآن يعثرون حينا بعد حين على قطع مبعثرة في عاديات القدماء من تلك القطع المختزنة في دفائن الأرض، وإن العهد لقريب بالعثور على مقاطيع مكتوبة على ورق البردي في عاديات مصر مما لم يدرج في ديوانه، على أن درة تلك القلادة إنما هي الإلياذة بلا خلاف. بل هي كانت ولا تزال درة عقد ما نظم الشعراء في كل عصر وبلاد مما تقدم زمن هوميروس وما تأخر عنه.
الأوذيسية
ويتلوها الأوذيسية وهي ملحمة تقصر عن الإلياذة بضعة آلاف من الأبيات يغلب على الظن أن الشاعر نظمها في شيخوخته، وموضوعها رحلة أوذيس أثناء عوده إلى بلاده بعد انتهاء حرب طروادة، والقصة بأجمعها لا تتناول إلا أربعين يوما ولكن فيها من الحقائق وتنوع المباحث ما يكاد يعادل الإلياذة، وهي كشقيقتها في أربعة وعشرين نشيدا، ولكنها باعتبار وقائعها تقسم إلى أربعة أقسام؛ يشتمل القسم الأول منها على ما حصل لأوذيس في منتهى المدة الطويلة التي نزل بها على الإلاهة كاليبسو في جزيرة أوجيجيا، وعشاق امرأته ساعون إذا ذاك في تبديد ثروته وتقويض دعائم ملكه، وابنه تليماخوس وهو فتى يافع مهتم في إحباط مساعيهم حتى إذا أعيته الحيلة شخص بإيعاز آثينا إلاهة الحكمة إلى فيلوس وإسبرطة متطلعا أخبار أبيه. وفي القسم الثاني وصف مغادرة أوذيس لجزيرة أوجيجيا وبلوغه بلاد الفاقيين حيث نزل وقص عليهم خبره، ثم غادرهم إلى إيثاكة مقر حكمه، وفي القسم الثالث تفصيل الخطة التي اختطها هو وابنه تليماخوس في منزل خادمه الأمين الراعي أفميوس للضرب على أيدي أولئك البغاة، وفي القسم الرابع وصف انتقامه منهم واستقراره في ملكه.
معارضة الأوذيسية بالإلياذة
إن بين الأوذيسية والإلياذة شبها كبيرا في النهج والسياق مما يدل على أن الناظم واحد، فكلتاهما قائمة على أساس بسيط مرجعه إلى موضوع واحد، ففي الإلياذة «كيد أخيل» وفي الأوذيسية «رحلة أوذيس» وعلى هذين الأمرين مدار جميع حوادث الروايتين بما تخللهما من القصص والتاريخ، وما وراء الطبيعة ودونها، وكل واحدة من الروايتين منحصرة الوقائع في أيام قليلة في منصرم أعوام طوال، فالإلياذة لا تتناول سوى ستة وخمسين يوما من حصار عشر سنين، والأوذيسية لا تتجاوز في مدتها الأربعين يوما من رحلة أوذيس، وكما أن مطالع الإلياذة يلم استطرادا بتاريخ ذلك الحصار وما تقدمه وما وليه، ويتمثل حالة البلاد بالنظر إلى التاريخ والجغرافية والدين والآداب والأخلاق والعادات، فكذلك يحيط مطالع الأوذيسية علما بما لقي أوذيس في تلك الرحلة منذ نزل بكاليبسو فشغفت به وأمسكته في جزيرتها سبعة أعوام، ويقف على حالة البلاد التي ألقته الأقدار إليها، وينزل إلى أعماق الجحيم، ويصعد إلى أعالي السماوات، ويطوف حول الأرضين تطواف الشاهد البصير، وكلتاهما متماسكة الأجزاء متراصة المعاني لا تقرأ نشيدا منهما إلا أنست به نفس سائر الأناشيد، ومع هذا فقد يعترض على وحدة الناظم بما بين اللحمتين من التباين في قوة التركيب وحدة التصور وجزالة اللفظ، فإن الإلياذة في كل ذلك فوق شقيقتها، وإنما هو اعتراض مردود بثبوت أن الإلياذة متقدمة على الأوذيسية نظمها الشاعر في أبان عمره ومخيلته على نضارتها ومادته بمعظم غزارتها، ولكن في الأوذيسية من إصابة المرمى، وسداد الرأي، ورسوخ الحكم، وسعة العلم ما لا يقصر عما في الإلياذة.
سائر منظومه
وأما سائر المنظومات المعزوة إلى هوميروس فسواء ثبتت له أو لم تثبت فلا تزيده رفعة وشأنا بل خير له أن لا تكون له، والراجح عند أهل التحقيق أنها من غير نظمه، وإن نسب هيرودوتس بعضها «كحرب الضفادع والفيران» و«حرب الزرازير» وجماعة «الكركوفة» وهي قصائد لا تتجاوز المئات من الأبيات، وليس فيها شيء مما يدل على أنها من نتائج تلك القريحة السيالة والذهن المتوقد. ونسبتها إلى الإلياذة والأوذيسية كنسبة بعض قصائد المتنبي المنظومة في صباه والمثبتة في أول ديوانه إلى سائر قصائده الرائعة. وقد ذهب أرسطوطاليس إلى أن هوميروس نبغ في الشعر الهزلي نبوغه في الشعر القصصي، واستدلوا على ذلك بالمنظومة «مرجيتس» وهي قصيدة يصف فيها الناظم رحلة مرجيتس الغني المتغطرس، ولم يبق منها إلا أجزاء متقطعة.
صفحة غير معروفة