وأما بنو الشرق فهم وإن جهل معظمهم اسم هوميروس فضلا عن وجود منظومات له إلا أن ذوي الاطلاع من متأخريهم قدروه حق قدره كما أن بعض علمائهم في الزمان الغابر أعظموا شأنه وأجلوه، وإن صفوة أدبائنا في هذا العصر شاعرون بالحاجة الماسة إلى نقله إلى العربية، ويذكرني هذا حديثا مع منيف باشا ناظر المعارف العثمانية قال في أثنائه: «لو أن الشاعر العربي القائل: كأني أميروس لدين محمد ... عمل حقيقة للشرق ما عمل هوميروس للغرب لما تعدانا الغرب هذا الشوط البعيد». وقد غاب عنه وعني عرفان ذلك الشاعر، ومما قاله لي السيد جمال الدين الأفغاني في محضر من الأدباء: «إنه ليسرنا جدا أن تفعل اليوم ما كان يجب على العرب أن يفعلوا قبل ألف عام ونيف. ويا حبذا لو أن الأدباء الذين جمعهم المأمون بادروا بادئ بدء إلى نقل الإلياذة، ولو ألجأهم ذلك إلى إهمال نقل الفلسفة اليونانية برمتها». وسأذكر في باب «الإلياذة» سبب إغفال نقلها إلى العربية.
ذلك قول عامة المتقدمين والمتأخرين وخاصتهم في هوميروس وشعره، أما الشعر فلا سبيل إلى إنكاره لأنه موجود يتلى، وأما هوميروس نفسه فقد قامت طائفة من الباحثين في أواخر القرن الثامن عشر بزعامة ولف الألماني، وتألبت على إنكار وجوده بتاتا، وما لبث مذهبهم أن انتشر انتشار الشرار ثم ما لبث أن خبا خبوه على ما سنبسطه في الكلام على الإلياذة.
قول العرب فيه
ليس في ما بين أيدينا من التآليف العربية ما يشير إلى أن ديوان هوميروس نقل إلى لغة العرب، فهو بلا ريب لم يعرب وإن كان معروفا عند خاصة العلماء في بغداد لعهد العباسيين إذ كان يتناشده الأدباء من نقلة الكتب المقربين من الخلفاء بأصله اليوناني ونقله السرياني، والظاهر أن الإلياذة كانت منتشرة بين الخاصة في بلاد الفرس والكلدان في زمن الدولة العباسية؛ لأن ثاوفيلس الرهاوي الذي نظمها بالسريانية كان منجم المهدي ثالث خلفائهم كما أثبتنا في حواشي الإلياذة (ن2). قال ابن أبي أصيبعة في كتابه «عيون الأنباء في طبقات الأطباء» نقلا عن يوسف بن إبراهيم في ترجمة حنين بن إسحاق أثناء تنكر حنين وهو عاكف على درس الطب:
4 «فتبنت خرشي (جارية الرشيد الرومية) ذلك الغلام (وهو إسحاق المعروف بابن الخصي) وأدبته بآداب الروم وقراءة كتبهم، فتعلم اللسان اليوناني علما كانت له فيه رئاسة، فكنا نجتمع في مجالس أهل الأدب كثيرا فوجب لذلك حقه وذمامه، واعتل إسحاق بن الخصي علة فأتيته عائدا، فإني لفي منزله إذ بصرت بإنسان له شعرة قد جللته وقد ستر وجهه عني ببعضها وهو يتردد وينشد شعرا بالرومية لأوميرس رئيس شعراء الروم فشبهت نغمته بنغمة حنين، وكان العهد بحنين قبل ذلك الوقت بأكثر من سنتين، فقلت لإسحاق بن الخصي: هذا حنين فأنكر ذلك إنكارا يشبه الإقرار، فهتفت بحنين فاستجاب لي».
فيؤخذ مما تقدم أن اليونانية كانت معروفة لذلك العهد في بغداد تقرأ وتدرس حتى في بيوت الخلفاء، وأن منظومات هوميروس كانت معروفة فيها بين المشتغلين بلغات الأجانب ومعظمهم إذ ذاك من النصارى.
وأما سائر ما ذكر عن هوميروس في كتب العرب فليس إلا شذرات مقتطعة من كتب اليونان المعربة برعاية العباسيين والمؤلفات التي وضعها كبار المعربين والمؤلفين من الكلدان؛ كابن ماسويه، وابن الخصي، وحنين بن إسحاق، مثال ذلك قول ابن أبي أصيبعة في عيون الأنباء: «وكان الشعراء في ذلك الزمان على ما ذكره حنين بن إسحاق أوميروس إلخ».
5
وقوله في ترجمة أرسطوطاليس: «ومن كتبه كتاب في مسائل من عويص شعر أوميروس في عشرة أجزاء».
6
صفحة غير معروفة