إنني أرتضي لك الاشتراك في السياسة القومية والأعمال التي تعمل لنيل الأمة استقلالها وضمان تقدمها على شرط واحد، وهو أن يظهر رؤساء الأحزاب وقادة الأمة فيعلنوا خطتهم ويطلبوا من الطلبة معونتهم، فإذ ذاك يجب أن تستجيب لهم، أما أن يختفي القادة من الميدان ويظهر الطلبة من غير قادة فإذ ذاك يكون شأنهم شأن الجند في الميدان من غير ضابط، والجيش من غير «أركان حرب» ... وهذا عرضة لتضارب السير للجيش الواحد وعمله على غير خطة، وانقسامه سريعا، وانهزامه سريعا.
أما السياسة الحزبية فإني أرتضيها لك رأيا ولا أرتضيها لك عملا، فاعتنق آراء الحزب السياسي الذي تؤمن به ويدلك الدرس على صحتها، ولكن يجب أن لا يتحول ذلك إلى إضراب. فالإضراب في هذه الحالة تعطيل للدرس من غير أن يكون له مبرر كاف، وحتى هذا لا أفهمه اليوم فهما كاملا، إنما أفهمه يوم يكون هناك برنامج معروف لكل حزب، فيكون للوفد مبادئ محصورة محدودة في الإصلاح السياسي والاقتصادي والاجتماعي، ويكون للسعديين، والأحرار الدستوريين ونحوهم مبادئ كذلك ... إذ ذاك تقرأ المبادئ وتقارن بينها، وتفضل بعضها على بعض، وتؤمن بما تفضله.
أما أن يكون اختيارك للحزب مبنيا على أساس أن رئيسه فلان ورئيس الآخر فلان، فنظرة كنظرة الطفولة تعرف الأشخاص ولا تعرف المعاني، تعرف الأبيض ولا تعرف البياض، وتعرف الأب ولا تعرف الأبوة. أما الرجل الناضج فيقوم المعاني والمبادئ ويحاسب الزعماء على سيرهم أو انحرافهم عن هذه المعاني وهذه المبادئ، وهذا ما يحدث في الأمم الراقية، وما لم يحدث في الأمم الشرقية جميعا.
أي بني!
إنك وأمثالك تفهم السياسة على أنها فكرة عارضة ورأي عابر، وأنها من السهولة بحيث يمكنك الحكم على مسائلها بمجرد النظر إليها، والتفكير السطحي فيها، وهذا خطأ أي خطأ. إن السياسة علم كسائر العلوم، كعلم الهندسة والطب والطبيعة والكيمياء، فهل تبيح لمن لم يدرس الطب أن يكون طبيبا، ولمن لم يدرس الهندسة أن يكون مهندسا؟ فلماذا تستبيح لنفسك أن تكون سياسيا ولم تدرس علم السياسة؟ ولماذا ترضى أن تحكم على الأشياء حكما سياسيا من غير درس ...؟ بل أؤكد لك أن السياسة علم أصعب من هذه العلوم التي ذكرتها، تحتاج إلى دراسة تاريخ وجغرافيا واجتماع كمقدمات لها، ثم تحتاج إلى دراسة النظريات السياسية واختلاف الآراء فيها والتطبيق عليها، ومتى طبقت بنجاح، ومتى طبقت بفشل، وأسباب النجاح وأسباب الفشل. وكثيرا ما يعرض الأمر السياسي، فيبدي فيه عامة الناس آراءهم، ثم يكون هذا الرأي خطأ فاحشا وضررا بليغا؛ لأنهم لم يدرسوا الأمر درسا دقيقا عميقا في أسبابه ونتائجه. لهذا كله أبيح لك أن تشتغل بالسياسة على سبيل التجربة والمران، لا على سبيل الاشتراك الفعلي. فالبت في أمور السياسة من عمل الساسة الذين انقطعوا لها ودرسوها درسا وافيا، وبنوا آراءهم على دراستهم، فإذا رأوا أن يستعينوا بكم فلتستجيبوا . أما أن تتزعموا الحركات من غير قيادة ... فطبيب يداوي من غير علم، ومهندس يبني من غير خبرة، وجندي يتزعم الجيش حتى الضباط والرؤساء، وهذا قلب للوضع وإفساد للنظام.
إني أفهم أن تكون طالبا في جامعتك أولا ومتمرنا على السياسة ثانيا، أما أن تكون متمرنا على السياسة أولا وطالبا ثانيا، فمناف لطبيعة الأشياء. فكيف إذا وضعت نفسك موضع الزعيم السياسي، والقائد للجيش، وجعلت حياتك العلمية هامشا لحياتك السياسية؟! إن هذا خطأ منك آسف له إن صدر عنك كابن لي، وكفرد في أمة.
أي بني!
إن أردت أن تعرف وجه الحق في هذا الأمر، فاستعرض ما كسبته الأمة من حركات الطلبة وما خسرته. لقد كسبت من حركاتهم يوم كانت موجهة إلى عدوهم الخارجي ويوم كانت حركة منظمة صادرة من رأي الزعماء، وكانت لا تظهر إلا حين يجد الجد ويعزم الأمر. فإذا هم فرغوا من مهمتهم رجعوا إلى دراستهم في جد ونظام، وخسرت من حركاتهم يوم كان الطلبة يضربون لا إحراجا للعدو، ولكن ليضرب بعضهم بعضا، ولينصروا حزبا على حزب، وليجلسوا حزبا في الحكم ويخرجوا منه حزبا ... وخسرت الأمة يوم كان الطلبة يضربون لأتفه سبب وأضعف غاية.
في الحالة الأولى ربحت الأمة واحتفظت الجامعات بكيانها وقوتها وأداء رسالتها، وفي الحالة الثانية خسرت الأمة وتفككت الجامعات وانحل رباطها وتدهور العلم فيها، وليس يصلح ما فسد إلى بجهود جبارة وإصلاح شامل وتضامن بين الأحزاب كامل.
أي بني!
صفحة غير معروفة