اعتادت أمك وأنت في مصر أن تشملك بعطفها، وتغمرك برحمتها، فتوفر لك كل ما تحتاجه من طعام وشراب ومنام، فاعتمدت عليها في كل ذلك لا على نفسك. ثم هي تسخر الخدم في غسل الصحون وما إلى ذلك، فاعتدت الراحة واستسلمت إلى الترف، وفررت من تحمل أي مسئولية. فلما سافرت إلى لندن شعرت بعيب هذه التربية وأنها أفقدتك الاستقلال، وتعودت عادات جديدة لم تكن لك من قبل، فعهد إليك أن تغسل الصحون لنفسك، وأن تحافظ على مواعيد الأكل في دقة ونحو ذلك، ثم رأيت عادات جديدة لأمة جديدة، فأنصحك أن تتحرى وتدقق التحري في عادات القوم الذين نزلت بينهم، وتختار منها أحسنها، وقد قرأت كتابا في النظم الاجتماعية في إنجلترا لم أذكر مؤلفه اليوم، فإذا ذكرته أرسلته إليك فاقرأه وكرر قراءته، وتعرف عادات القوم واجتهد في أن تعتاد ما هو خير منها، فالإنسان هو العادة، والعادة تكون المخ تكوينا خاصا، ولو أن خبرتنا بالمخ كافية لاستطعنا إذا نحن نظرنا إلى مخ إنسان لم نره من قبل أن نخبره بواسطة تركيبه وحجمه وشكله بصفات كثيرة من صفاته، وأن من خصائص المجموعة العصبية الذي أهمها المخ قابلية التشكل. ومعنى أن الجسم قابل للتشكل أنه إذا اتخذ شكلا جديدا احتفظ به واستمر عليه، كالورقة تثنيها فتحس شيئا من مقاومتها، فإذا ضغطت عليها اتخذت شكلا جديدا واستمرت عليه حتى لا تعود إليه إذا بسطت وهكذا. وكذلك الشأن في الأعصاب فكل عمل وكل فكر يشكلها بشكل خاص، حتى إذا أريد منها أن تعمل العمل ثانية أو تفكر التفكير ثانية كان ذلك أسهل؛ لأن الأعصاب استعدت للعمل وتشكلت به، كراكب الدراجة يجد صعوبة في ركوبها أول الأمر، ويجد صعوبة في حفظ التوازن عليها، فإذا استمر عليها واعتادها كان ذلك من أسهل الأمور، ومن أراد التأليف صعب عليه التفكير أول الأمر، فإذا اعتاده كان ذلك فيما بعد سهلا عليه.
فمن خصائص العادة سهولة العمل المعتاد كتعلم المشي للطفل، فكم يقاسي في سبيل ذلك، وكلما مشى وقع، وقد يستغرق تعلمه المشي شهورا، يتعلم أولا كيف يقف، ثم يتعلم الارتكاز على رجل واحدة عند اتجاه الأخرى إلى الأمام، ثم يتعلم تغيير الارتكاز من رجل إلى رجل حتى إذا اعتاد هذا كله كان يسيرا عليه. وكالكلام فقد تقتضينا الكلمة استعمال عضلات الحلق والشفة واللسان، وقد تقتضينا الكلمة الواحدة استعمال كل هذه العضلات، فإذا اعتدناها وتمرنا عليها سهل علينا النطق، وتكلمنا من غير شعور بصعوبة ما. واعتبر ذلك بنطق الإنجليزي أو الفرنسي بالعين العربية أو الضاد العربية، كيف يجد صعوبة في ذلك عند النطق بهما حتى يعتادوها.
ثم إن العادة توفر الزمن والانتباه، فعند تعلم الشيء قبل اعتياده يكلف انتباها شديدا وزمنا طويلا، كالكتابة عندما نتعلمها قد تحتاج كتابة سطر واحد إلى زمن طويل وانتباه تام واستحضار للفكر كله، فإذا صارت عادة استطاع الإنسان أن يكتب صفحات في زمن كان يكتب فيه سطرا، كما استطاع أن يكتب وفكره مشغول بشيء آخر. وهذا هو الفرق بين صاحب المهنة وغيره ، فصاحب المهنة ألف الشيء وسهل عليه من طول ما اعتاده. واعتبر في ذلك الفرق بين اليد اليمنى واليد اليسرى، فمن طول ما اعتادت اليد اليمنى الكتابة ونحوها سهل عليها العمل وقصر الزمن، ولا كذلك اليسرى. وقد يكون أسهل عليك أن تعتاد عادات القوم من أن تعتاد العادات المصرية، لأن الرأي العام هناك شديد والتيار قوي، فمتى انغمست في التيار جرفك وسرت في سبيله. ثم اعلم أن للعادة قوة كقوة الطبيعة؛ ولذلك يقولون إن العادة طبيعة ثانية، فاصبر على الأمر في أول الأمر إذا وجدت مشقة قبل اعتياده، فأنت إذا اعتدته سهل عليك، ثم إذا اعتدته فحذار أن يجرفك التيار المصري بعد رجوعك فتنسى عادتك وتغيرها إلى أسوأ منها، فالمحافظة على الزمن وضبط المواعيد وصدق القول عادات حسنة في إنجلترا ومصر على السواء، فليست هي محمودة في إنجلترا غير محمودة في مصر، ولكن ربما كلفك المحافظة عليها في مصر مشقة أكثر مما اعتدتها في إنجلترا، لضعف التيار وضعف الرأي العام، ولكن المهارة الكبرى أن تقف في عاداتك التي تعودتها موقف الشجاعة والحزم، ولو كان ذلك ضد التيار وضد الرأي العام، ومن غير ذلك لا يمكن أن تتقدم مصر جيلا عن جيل وزمنا عن زمن، وقد يكلفك ذلك مشقة ولكن كما قلت لك من قبل، إن الصبر عند الصدمة الأولى.
أي بني!
لو قلت إن الإنسان هو مجموعة عادات لم تكن بعيدا عن الصواب، فالعادة هي التي تكسب كل ذي حرفة سحنة خاصة، حتى لتدرك إن كان هذا مدرسا أو طبيبا أو خياطا إذا أنت دققت النظر في شكله. وقوة العادة هي التي تجعل المسنين كأبيك يرفضون الآراء الجديدة برغم ما عند بعضهم من المرونة، وتجعل الشبان أمثالك يسرعون في اعتناقها؛ ولذلك قل أن تجد عندنا شيوعيا شيخا؛ لأن الشيوخ ألفوا من صغرهم آراء معينة اعتادوها، وأما أمثالك من الشبان فلم يألفوا نوعا خاصا من الآراء، فكانوا لذلك على استعداد لقبول ما تقوم البراهين على صحته، ومن أجل هذا قامت النصرانية والإسلام على أكتاف الشبان، أمثال فتية أهل الكهف، وأمثال عمر بن الخطاب وخالد بن الوليد وأمثالهما، لأنه لهم من المرونة ما يجعلهم يقبلون الدعوة الجديدة، بينما كان أمثال دريد بن الصمة الشيخ، والأعشى الشيخ أيضا وأمثالهما لا يألفون الإسلام لأنهم شبوا على غيره. قال جان جاك روسو: «يولد الإنسان ويموت وهو مسترق مستعبد، يشد عليه القماط يوم يولد والكفن يوم يموت.» وهو يقصد بذلك إلى تقيده بالعادات من يوم أن يولد إلى يوم أن يموت، فهو من حين كان في بطن أمه مقيد بعادات موروثة من أبويه، ثم بعادات تعودها مدى الحياة منذ أن كان طفلا إلى أن صار شيخا.
ومن نعم الله عليك وعلى أمثالك أن كانت العادة سهلة التغيير، فيمكنك تغيير العادات السيئة التي ورثتها عن آبائك وبيئتك في مصر إلى عادات أحسن منها وجدتها في إنجلترا؛ فيجب لذلك اتباع القواعد الآتية التي وضعها الأستاذان بين وجيمس وهي: (1)
اعزم عزما قويا لا يشوبه تردد، وضع نفسك في المواضع التي لا تلائم العادة القديمة، وارتبط ارتباطات كثيرة منافية لها، وإذا رأيت أن إعلان عزمك على تركها مما يبعدك عن العودة إليها، فافعل. فمثلا إذا أحببت أن تترك التدخين فتعمد جلوسك مع أصحاب لا يدخنون واعلن بين أصدقائك أنك تركت التدخين، فهذا مما يعينك عليه. (2)
لا تسمح لنفسك بمخالفة العادة الجديدة، إلا بعد أن تتمكن جذورها من نفسك وحياتك، فإنك إذا سمحت لنفسك ولو مرة بالتدخين انفلت العيار، كالبكرة تلف خيطا عليها، فإذا سقطت البكرة ولو مرة واحدة انحل من الخيط ما يحتاج لإعادة طيه إلى عشرات من اللفات؛ ولذلك كان العزم على ترك العادة السيئة مرة واحدة خيرا من تركها بالتدريج، لأن التدريج يشوقك إليها باستمرار. (3)
انتهز أول فرصة لتنفيذ ما عزمت عليه، فإن الصعوبة ليست في العزم، وإنما هي في تنفيذه. (4)
حافظ على قوات المقاومة واحفظها حية في نفسك، وذلك بأن تتبرع كل يوم بعمل صغير لا تقصد منه إلا مخالفة نفسك وآرائك؛ لأن هذا يعينك على مقاومة المصائب إذا حان حينها، وأرجو الله لك التوفيق دائما.
صفحة غير معروفة