8
أي بني!
لقد جئت في مفترق الطرق بين جيلنا وجيل من قبلنا وجيلك، ويخيل إلي أن الفرق بين جيلك وجيلنا أكبر جدا من الفرق بين جيلنا وجيل آبائنا، لأنك تتأثر بالمدنية الغربية أكثر مما كنا نتأثر ويتأثر آباؤنا ... بل إن المدنية الغربية نفسها تتطور تطورا كبيرا، فهي في القرن العشرين غيرها في القرن التاسع عشر والثامن عشر.
لقد ظلت المدنية الغربية تتطور إلى أن كان على قمتها القنبلة الذرية ... وهناك فرق كبير بين المدنية الغربية والمدنية الشرقية. فإن نحن تصورنا تعاليم الغرب هرما، كان أساسه الدعوة إلى العلم والتجربة ودراسة الحقائق، وقمته هي القنبلة الذرية. وإن تصورنا المدنية الشرقية هرما كانت دعامته الروحانية والإلهام وما إلى ذلك، وكانت قمته النبوة؛ وبناء على ذلك فرق كبير بين الفلسفة الغربية والفلسفة الشرقية.
إن المدنية الغربية تتميز بشيئين يظهران جليا في فلسفتها: الأول النظام وبحث المسائل بحثا منطقيا منظما تنبني نتائجه على مقدماته، ويتجلى ذلك في ديكارت، وكانت، وأوجست كونت، ونحوهم. والمسألة الثانية عنايتها بالحقائق أكثر من عنايتها بالقيمة، على عكس الفلسفة الشرقية في هذين الشيئين. فالفلسفة الشرقية ليست خاضعة لنظام ولا مقدمات منطقية تتبعها نتائج، كما يتجلى ذلك في كلام الجاحظ وابن المقفع والأحنف بن قيس ونحوهم، وهي أيضا تعني بالقيمة أكثر مما تعني بالحقائق، وأعني بالفرق بين القيمة والحقائق كالفرق بين من يعني بالقلب ووظيفته في الجسم، وبين من يعني بالقلب من حيث تركيبه وموضعه من الرئة اليسرى ونحو ذلك.
أي بني!
إن العالم اليوم كبوتقة الصائغ، تصب فيها كل العناصر من شرق وغرب وقديم وحديث، ثم تستغل كلها ليؤخذ خيرها، وهي تتطلب من الإنسان أن يكون مرنا واسع الصدر ... لا يزدري ما في الشرق لشرقيته، ولا يمجد الغرب لغربيته، وإنما يمجد الحق حيث كان. فنصيحتي أن تكون مفتح العينين، مفتح الأذن، تتطلب الحق حيث كان، لا تأبه للجديد لجدته، ولا تنفر من القديم لقدمه.
إن للشرق مزايا لا يستهان بها، فحكمته مركزة متبلورة، وهو يعتمد على الإلهام أكثر مما يعتمد على العلم والتجربة والحقيقة. وللغرب مزايا لا يستهان بها، فهو يعتمد على الحقيقة والتجربة والعلم، ولكن كانت نتيجة العلم الأوروبي القنبلة الذرية، وهذه القنبلة ينقصها النظر إلى خير الإنسانية لا إلى استعمالها في الغلبة، ولو استكشفت وصحبها النظر إلى خير الإنسانية لاكتشف تحطيم الذرة لا القنبلة الذرية، ولاستخدمت في خير الإنسان، من إزالة سدود وقيود قبل أن تستخدم في القنابل، أما قصد الغلبة فيرمي إلى القنبلة الذرية أكثر مما يرمي إلى خير الإنسانية؛ لأن القنبلة الذرية إنما تستعمل في الفتك لا في النفع.
أي بني!
إنك في زمن الآن قد مسحت فيه كل القيود، واختلط الشرق بالغرب، واختلطت المدنية الشرقية بالمدنية الغربية، وأصبح يمكنك أن تفطر في مصر وتتغدى في فرنسا، وتتعشى في إنجلترا، وهي إحدى الأعاجيب التي ما كنا نحلم بها. وليس هذا بالأمر الهين، فمعناه أن الحضارات تتقابل، ومنافع الناس تتلاقى ... وخير لك أن تقابل عالمك في ثوبه الجديد، فتتأقلم معه وتسايره ولا تقف ضد التيار فيجرفك.
صفحة غير معروفة