وقاكم الله شر ذلك.
7
أي بني!
لشد ما يؤسفني ما أرى في جيلكم من إفراط في اللهو، كما كان يؤلمني ما كنت أرى في جيلنا من إفراط في الجد. لقد عشت أنا في جيل كان أكثر طلبته لا يعرفون إلا بيوتهم ودروسهم وكتبهم ... فإذا أراد أحدهم أن يلهو وطاوعته ماليته، ذهب إلى دار تمثيل فاستمع للشيخ سلامة حجازي أو نحوه، مرة أو مرتين في السنة، وإذا قرأ مجلات أو جرائد فمجلات جادة وجرائد وطنية، وإذا عرف فتاة فقريبته تزور بيته مع أمها، أو يزور بيتها مع أهله، وإذا اجتمع الطلبة وأرادوا أن يتسلوا تنادروا على كتبهم ودروسهم، وقد يتنادرون - في أدب - على أساتذتهم. وعشت أنت في جيل لا يشبه الجيل القديم في شيء، عماده الحرية المطلقة، وقلة الشعور بالمسئولية، والنظر إلى اللذائذ المادية على أنها غاية الغايات. ينظرون إلى الكتب والدرس والأساتذة على أنها دواء مر يتعاطى للضرورة. والضرورة هي الشهادة فالوظيفة، ولإحساسكم بمرارتها ترحبون بكل ما يريحكم منها إضراب واعتصام ومطالبة بطول إجازات ونحو ذلك. وإذا قرأتم شيئا بجانب دروسكم قرأتم الكتب الرخيصة والمجلات الوضيعة التي تلهب الغرائز، وتقوي الشهوات، وتضعف الذكاء، وتبلد العقل، وفي كل يوم سينما أو تمثيل، وفي كل ساعة تليفون يرن لكم أو يرن منكم لمقابلة لاهية أو محادثة عابثة.
أي بني!
لقد غلونا في جدنا وغلوتم في هزلكم ... غلونا في جدنا حتى اكتأبت نفوسنا، وانقبضت صدورنا، ولم تتفتح للحياة كما يجب، ولم تبتهج لها كما ينبغي، وغلوتم في هزلكم حتى صرتم كالشيء التافه لا طعم له، وكالماء الفاتر لا ساخن ولا بارد ... وحتى صرتم شيئا رخوا ينكسر لأدنى ملامسة، أو هشيما تذروه الرياح. ويوم يجد الجد وتظهر المصاعب فتتطلب حمل المسئولية، نجد لكم أيديا مسترخية، وقلوبا متخاذلة، وإرادات واهية، أضعفتها كثرة الطلب للذة، وقلة التعود لمواجهة المصاعب، وحب الترف والنعيم.
ومن أجل هذا كثرت - مع الأسف - ضحاياكم، وعدت بالألوف صرعاكم. هؤلاء صرعى «الكيوف» لا أمل فيهم، ولا خير يرجى منهم، أصبحوا جثثا تتحرك كالأشباح، ومواد محطمة بلا أرواح؛ أضاعوا صحتهم، وأتلفوا مالهم، وخربوا نفوسهم، وجنوا على أسرتهم وأمتهم. وهؤلاء صرعى الحب البائس أو الحب اليائس، أو النزوة الوقتية من غير تقدير للمسئولية ... إلى غير ذلك من صرعى اللذات، وكلهم في الهم سواء. قد جرهم إلى هذا الوبال أن رأوا بعض زملائهم ذوي المكانة - لسبب ما - قد استهتروا فقلدوهم، وتوالت على سمعهم أن الدنيا لذة فوجهوا إليها كل قوتهم. ورأى هؤلاء القادة أنهم قد ضلوا، فأحبوا أن يشركوا معهم غيرهم فأضلوا، وبعثت إلينا أوروبا وأمريكا بملاهيها فاستهوت شبابنا، ووقر في نفوسهم أن أوروبا وأمريكا أرقى منا مدنية وأعلى مقاما وأعز جاها ... فقالوا ما علينا إذا سرنا في لهوهم سيرهم، ونعمنا بملاهيهم نعيمهم، وفاتهم أن في أوروبا وأمريكا علما يعادل اللهو، وجدا يوازن الهزل، وشعورا بالمسئولية يوازي الشعور بالحرية.
ولكن لم يجد جد أوروبا وأمريكا من يعرضه علينا كما يعرض الهزل، لأن وراء عرض الهزل أموالا طائلة وأرباحا وافرة، لا تؤاتي من يعرض الجد والعلم والمسئولية، فكان من الخطأ أن نأخذ جانبا وندع جانبا، وأن نتصور المدنية لعبا لا جد فيها، وحرية لا مسئولية معها.
أي بني!
لست أريدك أن تكون راهبا، فمتى خلقت إنسانا لا ملكا فلتكن إنسانا له ملذاته وشهواته في حدود عقله ومنفعته ومنفعة أمته. والقرآن يقول:
صفحة غير معروفة