إن الاحتفاظ بالخلق الطيب في زمنك أصعب منه في زمننا لكثرة ما يحيط بك من مغريات بالشر، فأسباب اللهو ميسورة في زمنك وقد كانت صعبة في زمننا ... وأفانين الخلاعة مغرية جذابة بفضل ما أدخلته المدنية الحديثة من أساليب فتانة، وقد كان الدين في زمننا حرزا منيعا من التدهور والسقوط، فلما ضعف شأن الدين في زمنكم ولم يحل محله ما يحفظ عليكم نفوسكم وقعتم بين شرين: قوة المغريات وضعف الحصون المانعات. ولا منجاة من هذا إلا بتقوية الإرادة وتدريبها على فعل الخير، ومقاومة بواعث الشر، ومكافحة الشهوات ومحاربة الأنانية. •••
أي بني!
بهذه المناسبة، أذكر لك أني شاهدت في حياتي كثيرا من الشبان كانوا صرعى الشهوات ... كانوا في حياتهم الجامعية لامعي الذكاء، يدل جدهم وسلوكهم على أن سيكون لهم مستقبل رائع. كانوا مثال الجد والنشاط والذكاء في دراستهم، ثم رأيتهم فجأة انحرفوا عن الطريق السوي وانغمسوا في شهواتهم؛ فخاب فيهم كل أمل، وفقدوا ذكاءهم اللامع، ونشاطهم السباق، وجدهم الباهر.
وهؤلاء الصرعى كانوا أشكالا وألوانا، فمنهم - وقد يكون أسوأهم - صرعى «الكيوف»، وهو داء - مع الأسف - فشا في كثير من الشبان، فأضاعوا مستقبلهم، وفقدوا إرادتهم، وانحطت نفسيتهم، وأضحوا لا يرجى منهم خير. وكان أسوأ مثل لهذا وأدعاه للحزن والأسف ما رأيت من شاب كان من أوائل الناجحين في البكالوريا، ثم التحق بكلية من الكليات العلمية فكان من أوائل الناجحين في سنته الأولى والثانية، وكان ذا حظوة عند أساتذته، وسمعة طيبة في علمه وخلقه عند زملائه، وفي آخر عامه الثالث من الكلية سقط في الامتحان ثم لم ينفع بعد، وبحث عن أمره فإذا هو صريع «كيف» من «الكيوف». وبلغ به الأمر أن صار يتسكع في الشوارع، ثم صار يستجدي الناس. فأعيذك بالله أن تكون صريع «كيف».
وهناك صرعى حب المال والجاه والمجد ... تخرجوا من جامعاتهم والتحقوا بالوظائف الحكومية أو الأهلية، ثم لم يقنعوا بمرتبهم الصغير ولا بطريقهم إلى الرقي البطيء، ورأوا زملاءهم اغتنوا من طريق بيع ذممهم، أو ارتقوا من طريق تزلفهم وتملقهم، أو اشتهروا عن طريق النصب والاحتيال ... فقلدوهم في ضلالهم وخسروا خسرانهم ... وأعيذك بالله - أيضا - أن تكون أحدهم. •••
إن طريقة هؤلاء في الحياة طريقة المقامرين، ولا أريدك مقامرا، ولكني أريدك تاجرا ... ولا أريدك مستهترا، ولكن أريدك عفيفا معتدلا. لا يغرنك مظهر الذين انغمسوا في شهواتهم واندفعوا وراء لذاتهم، وما يخدعونك به من سرورهم وابتهاجهم وضحكهم ... فحسبة بسيطة للذات هؤلاء وآلامهم، تريك أن الاعتدال في اللذائذ أكبر لذة وأقل ألما. إن الانهماك في اللذائذ كنار القش تلتهب سريعا وتنطفئ سريعا، والاعتدال في اللذائذ كنار الفحم تطول مدتها ويطول الانتفاع بها ولا تخمد إلا ببطء. احسب حساب من اعتدل في لذائذه، كيف احتفظ بصحته واحتفظ بماله واحتفظ بسمعته، والتذ في حياته لذة طويلة هادئة ممتعة لم يعقبها ألم ... واحسب حساب من أفرط في لذته، ففقد صحته وماله وسمعته، وكانت آلامه الطويلة أضعاف لذائذه القصيرة ... حتى في حساب اللذة والألم نرى الاعتدال خيرا من الإفراط، فما بالك إذا قسنا ذلك بمقياس الخلق والفضيلة والنبل والمروءة؟
كذلك لا يغرنك من علا صيتهم من طريق التهريج، ولا من تخطوا زملاءهم من طريق التزلف، ولا من كسبوا المال من طريق مد اليد ... فكل هذه المظاهر الكاذبة، لو وزنت بحياة الضمير وعلو النفس وطمأنينة الاستقامة لم تساو شيئا. فليكن مبدأك الشعور بالواجب، والاعتدال في اللذائذ، وطهارة النفس، والحرص على الشرف، والسعي وراء النبل والمروءة ... ولتكن النتيجة بعد ما تكون ... ومع ذلك فإني ضامن لك النجاح.
6
أي بني!
لعل أهم ما يتميز به جيلكم عن جيلنا هو حيرتكم واطمئناننا، واضطرابكم وسكينتنا، وقلقكم واستقرارنا، ولكن ما سر هذه الحيرة وهذا القلق والاضطراب في جيلكم؟
صفحة غير معروفة