مقدمة
رسالة إلى ولدي
رسالة إلى أبي
رسالة إلى ولدي
رسالة إلى ابنتي
رسالة إلى ولدي
مقدمة
رسالة إلى ولدي
رسالة إلى أبي
رسالة إلى ولدي
رسالة إلى ابنتي
رسالة إلى ولدي
إلى ولدي
إلى ولدي
تأليف
أحمد أمين
مقدمة
طلبت إلي مجلة «الهلال» في آخر سنة 1949 أن أكتب لها سلسلة مقالات بعنوان «رسالة إلى ولدي» تنشر خلال عام 1950، فأتممتها اثنتي عشرة مقالة في كل شهر مقالة، وجهت فيها نصائحي ونتائج تجاربي إلى ولدي. وصادف أن كان لي ابن يتم تعليمه في إنجلترا فاستحضرته في ذهني عند كتابتها.
وهذه العادة، عادة كتابة الآباء إلى الأبناء، عادة قديمة قصها علينا القرآن الكريم في نصيحة لقمان لابنه، ونصيحة الفارسية المعروفة بجويدان خرد. وكثيرا ما نصح الملوك أولياء عهدهم بنصائح ترشدهم في مستقبل حياتهم، وكثيرا أيضا ما نصح الملوك عمالهم في كيف يسيرون وأي منهج ينهجون: نصح عمر بن الخطاب أبا موسى الأشعري نصيحته المشهورة في كيف يسير في القضاء. وقالوا: إن علي بن أبي طالب نصح الأشتر النخعي بنصيحته المشهورة عندما ولاه مصر، واستمرت هذه النصائح في التاريخ الأدبي إلى يومنا هذا، وكان من آخرها نصيحة المرحوم محمد حافظ عوض بك لابنه. فآثرت أن أجري مجراهم مراعيا اختلاف البيئة واختلاف العصر، فلكل عصر نصائحه، ولكل عصر أسلوبه. فلما تمت، أشار علي بعض الإخوان أن أفردها في كتاب، فاستصغرها الطابع وطلب أن أضم إليها مثلها أو نصفها، فاستقبلت هذا الطلب قبولا حسنا، إذ كانت هناك معان عندي لم تكتب في الرسائل الاثنتي عشرة فكتبتها، وها هي اليوم تخرج في كتاب.
والمأمول أن ينتفع بها الجيل الحاضر كما انتفع بها ابني، رغم أنه عارض فيها بدعوى أن النصائح ليست كبيرة الفائدة، وإنما أكبر فائدة للبيئة والوراثة، وقد خالفته في ذلك؛ لأنه إذا كانت للبيئة كل الأثر فالنصائح الأبوية بعض البيئة، ولعلي بذلك أكون قد قمت بواجب علي نحو أبنائي من صلبي وأبنائي من شبان الجيل الحديث. فعلى كل من جرب أن يقدم تجربته للناشئين من بعده، وعلى الناشئين أن يسمعوا آبائهم ويأخذوا منهم خير ما عندهم، والله الموفق.
القاهرة في 4 ربيع الآخر سنة13/1370 يناير سنة1951.
أحمد أمين
رسالة إلى ولدي
1
أي بني:
إني لأعلم أنك قد خلقت لزمن غير زمني، وربيت تربية غير تربيتي، ونشأت في بيئة غير بيئتي - لقد كنت في زمني عبد التقاليد والأوضاع، وأنت في زمن يكسر التقاليد والأوضاع، وكنت في زمن شعاره الطاعة، الطاعة لأبي ولأولياء أمري، وأنت في زمن شعاره التمرد، التمرد على سلطة الآباء، وعلى المعلمين وعلى أولي الأمر - وتعلمت أول أمري في كتاب حقير، نجلس فيه على الحصير، ويعلمنا مدرس جبار، يضرب على الهفوة وعدم الهفوة، ويعاقب على الخطأ والصواب، ويمرن يده بالعصا فينا كما تمرنون أيديكم على الألعاب الرياضية. وأنت تعلمت في روضة الأطفال حيث تشرف عليك آنسة رقيقة مهذبة، وتقدم لك تعليم القراءة والكتابة في إطار من الصور والرسوم والأغاني وما إلى ذلك. وكنت أعيش في كتابي على الفول النابت والفول المدمس، وأنت تعيش في روضتك على اللبن والشاي والبسكويت وما إلى ذلك أيضا.
ثم لما صبوت تعلمت في المدارس الفرنسية حيث تنقل إليك في تعاليمها كل أساليب المدنية الغربية - وتربيت أنا في وسط كله دين - دين في الكتب ودين في الحياة الاجتماعية ودين في أوساطي كلها. وتربيت أنت في مدارس أو جامعات لا يذكر فيها الدين إلا بمناسبات. وكان يذكر الدين في وسطنا دائما ليحترم، وكثيرا ما يذكر الدين في وسطك ليهاجم. ونشأت في وسط لا تذكر فيه السياسة إلا لماما، ونشأت في وسط كله سياسة وإضراب وأكثر من الإضراب. ونشأت في وسط لا يعرف المرأة إلا محجبة، ولا يعرف فتاة إلا أن تكون قريبة، ونشأت أنت في وسط تجالسك الفتاة في جامعتك وتشاهدها في أوساطك وقد أخذت من الحرية مثل ما أخذت؛ ولو عددت لك الفروق بيني وبينك، في زمني وزمنك، وتعليمي وتعليمك، وبيئتي وبيئتك، لطال الأمر.
ولكن برغم كل هذا فالفروق مهما كانت فروق جزئية، ولا يزال بيني وبينك وجوه شبه أعمق من هذه المظاهر، فالتغيرات بين الناس مهما اختلفت الأزمنة والأمكنة تغيرات سطحية وأمور عرضية؛ أما الإنسان في جوهره والجمعيات البشرية في نزعاتها الأصيلة فترجع إلى أصول واحدة، ومن أجل هذا كانت تجارب السلف تفيد الخلف. فلأقص عليك شيئا من تجاربي التي أعتقد أنها تفيدك، مهما اختلفت بيئاتنا ومدارسنا وثقافتنا. •••
أهم ما جربت في حياتي أني رأيت قول الحق والتزامه، وتحري العدل وعمله، يكسب الإنسان من المزايا ما لا يقدر، لقد احتملت في سبيل ذلك بعض الآلام، وأغضبت بعض الأنام، وضاعت علي من أجله بعض المصالح، ولكني برغم ذلك كله قد استفدت منه أكثر مما خسرت، لقد استفدت منه راحة الضمير، واستفدت منه ثقة الناس بما أقول وما أعمل، واستفدت منه حسن ظنهم بما يصدر عني ولو لم يفهموا سببه، ومع هذا فقد استفدت منه أيضا ماديا أكثر مما استفاد غيري، ممن لم يلتزموا الحق ولم يراعوا الصدق والعدل. لقد وجدت في أوساط كثيرة وعاشرت زملاء كانوا يرضون رؤساءهم أكثر مما يرضون ضمائرهم، ويقولون ما يعجب الناس لا ما يعتقدون أنه الصدق، ويرتكبون الظلم طلبا للجاه أو العلو في المنصب، ومع هذا فقد ربحوا قليلا وخسروا كثيرا. لقد خسروا الفضيلة وخسروا الضمير، وفازوا بقليل من الحظ العاجل تبعه كثير من الفشل الآجل. فلو حسبت بالدقة ما كسبت وما خسرت وما كسب هؤلاء وما خسروا لوجدتني أسعد حالا وأوفر حظا. فإذا أردت أن تنتفع بتجربتي فالتزم الحق والصدق والعدل في جميع أعمالك مهما تكن النتيجة.
نعم رأيت من زملائي من تمسكوا بهذه الفضيلة فخسروا كثيرا وفشلوا فشلا ذريعا، ولكن لم يكن عيبهم أنهم التزموا الحق والصدق والعدل، بل عيبهم أنهم التزموا هذه الصفات في سماجة، فقالوا الحق في غير أدب والتزموا الصدق في غير لباقة، وتحروا العدل في غير لياقة، فلم يكن الذنب ذنب الحق، ولكن الذنب ذنب السماجة. فتعلم من هذا أن تقول الحق في أدب وتتحرى العدل والصدق في لباقة ولياقة. فمن غضب بعد ذلك كان الذنب ذنبه ولا ذنب عليك، ولا تتعجلن النتيجة فقد تمس من الحق نارا، ويهب عليك من العدل لفحة جحيم، ولكن ذلك أشبه ما يكون بالامتحان، إن صبرت له انقلبت النار جنة واللفحة الحارة نسيما عليلا.
ومن أهم تجاربي أيضا أني رأيت كثيرا من الناس يخطئون فيظنون أن المال هو كل شيء في الحياة. يبيعون أنفسهم للمال ويحاولون أن يتزوجوا للمال ويضيعون أعمارهم للمال، ويفرطون في الفضيلة للمال، وقد أقنعتني التجارب أن المال وسيلة من وسائل السعادة حقا؛ بشرط أن يطلب باعتدال وينفق في اعتدال، وبشرط ألا يكون ما تحصله كثيرا جما، فتنقلب عبدا له، وبشرط أن يبقى المال وسيلة أبدا ولا ينقلب غاية أبدا. فإن أكثر الناس وقعوا في متاعب شتى من هذه الأخطاء.
فمنهم من بدأ حياته يطلب المال على أنه وسيلة ثم استمر في طلبه بعد أن استوفى حاجته منه فانقلب غاية، ومنهم من صرف حياته وتفكيره في المال وفي الاستزادة منه حتى فقد سعادته بل وفقد نفسه، وقد دلتني التجارب على أن أسعد الناس من وضع المال في موضعه اللائق به، فلم يرفضه رفضا باتا ولم يذل له ذلا تاما. ونظر إلى المال على أنه وسيلة من وسائل السعادة لا كل السعادة، ولم يطلبه إلا مع الشرف والعزة والإباء. فإن تعارض معها ضحى المال للفضيلة والغنى للضمير. •••
ودلتني التجارب على أن عنصر الدين في الحياة من أهم أسباب السعادة. ولكن أصدقك أنه لم يعجبني موقف زماننا من الدين ولا موقف زمانك، فقد كان الدين في زماننا متزمتا لا سماحة فيه، متشددا لا لين فيه، مغلقا لا عقل فيه، والدين في زمانكم متضائل لا حياة فيه، منسي لا ذكر له، موضوع على الرف لا يؤبه به. والحياة السعيدة كما دلتني التجربة حياة ترتكز على الاعتقاد بإله يركن إليه ويعتمد عليه، وتستمد منه المعونة ويطلب إليه التوفيق في الحياة، ويملأ القلب رحمة وعطفا وحبا لخير الإنسانية. يعجبني من الدين أن يكون سمحا لا غلظة فيه، وألا يكون ضيق الأفق فيناهض العلم، بل يؤمن صاحبه أن له مجاله وللعلم مجاله، وأن الدين الصحيح لا يناقض العلم الصحيح، وأن لا بد منهما جميعا للإنسانية، فالعلم لحياة العقل والدين لحياة القلب. •••
هذه، يا بني، بعض تجاربي في الحياة وما أكثرها! ولكني أخشى أن أطيل عليك فتمل، وأحب أن أقدمها إليك جرعة فجرعة لتستسيغها وتتذوقها وتأخذ نفسك بتشربها رشفة فرشفة. أذكر لي رأيك فيها وموقعها عندك ومبلغ استعدادك لقبولها، وفي ضوء ما أسمع منك ستتوالى عليك كتبي إليك، تقدم إليك تجاربي كأسا فكأسا.
والسلام عليك ممن يحب لك الخير ويود أن تكون خيرا منه، ويتمنى أن يحيا فيك خيرا مما حيى في نفسه والسلام.
2
أي بني:
إنك الآن تدرس في إنجلترا بعد أن أتممت دراستك في مصر، والذين درسوا قبلك في أوروبا أشكال وألوان، اختلفت منازعهم واختلفت اتجاهاتهم، واختلفوا في مقدار نجاحهم وفشلهم، ولكن يمكن تقسيمهم إلى مجموعات محددة واتجاهات معينة.
فمنهم من شعر بأن حريته في مصر كانت مفقودة، فرآها في أوروبا موفورة. فقد تحرر من رقابة الأبوين ورقابة المدرسة، وأصبح أمير نفسه ليس عليه رقيب ولا حسيب، ورأى مجال اللهو في أوروبا واسعا فسيحا (وأوروبا - على العموم - كفيلة أن تحقق كل رغبة وتوفر كل اتجاه، فمن شاء الجد فالأبواب أمامه مفتحة ومجال الجد لا حد له، من شاء اللهو فالأبواب أمامه مفتحة ومجال اللهو لا حد له) فانغمس في وسائل اللهو ووهبها كل ماله وكل تفكيره وكل وقته. نهاره نائم وليله عابث، ولا يرى جامعته ولا تراه إلا محافظة على الشكل وحرصا على استجلاب المال من أبيه أو من حكومته أو منهما معا، وهو يلهو ويوهم أباه أنه يجد، ويعبث ويخدع من في مصر بأنه دائب في طلب العلم، ويحتال على أبويه في تحصيل المال بكل وسيلة، فهو من فرط جده محتاج إلى شراء كثير من الكتب، ومن فرط البرد محتاج إلى كثير من الملابس، ومن فرط مذاكرته محتاج إلى التردد على الطبيب، وكل ما يأتيه من هذه الحيل مصروف في شهواته ولذاته. وأخيرا تنكشف الأمور عن مأساة ويعود إلى بلده ولا علم ولا خلق، وقلما يصلح في مصر لعمل بعد أن فسدت نفسه ومات ضميره وذهب علمه وانحط خلقه. •••
ومن الدارسين في أوروبا من كانوا على العكس من ذلك - وهم أقل عددا. هؤلاء عكفوا على دروسهم بكل جد، ولم يعرفوا غير حجرتهم وكتبهم وجامعتهم وطريقهم من البيت إلى الجامعة، قد نقلوا حجرتهم في مصر إلى حجرة في إنجلترا أو فرنسا، وغيروا كتبهم في مصر إلى كتبهم في إنجلترا وفرنسا، وعملهم في مصر إلى عملهم هناك من غير فرق، وظلوا يعملون ويكدون حتى نالوا الدرجة العلمية وأتت التقارير عنهم إلى وزارة المعارف وإلى آبائهم بأنهم مثال الجد والنشاط والنجاح العلمي، ثم عادوا يحملون شهادتهم ويعملون فيما عهد إليهم أن يعملوا. هؤلاء قد نمت عقولهم وغزر علمهم، ولكنهم لم تتفتح قلوبهم ولم ترق نفوسهم، وهؤلاء الآخرون لا يعجبونني كما لم يعجبني الأولون. •••
وهناك طائفة ثالثة هي التي تعجبني وهي التي أحب أن تسير على منهجها. هؤلاء قد فهموا رسالتهم من بعثتهم على الوجه الأكمل - فهموا أنهم إنما سافروا ليدرسوا علما وليدرسوا خلقا - يحضرون لنيل الدكتوراه ويحضرون لشيء أسمى من الدكتوراه، وهو دراسة الحياة الاجتماعية في إنجلترا أو فرنسا أو ألمانيا أو أمريكا، ويبحثون عن سر عظمة هذه الأمة ومواطن قوتها وضعفها والفروق بينها وبين مصر، وما يحسن أن تقتبسه مصر وما يحسن ألا تقتبسه، يتعلمون هذه الدروس من الحياة الاجتماعية في الجامعة ومن الحياة العائلية في البيت، ومن الرحلات التي تنظمها الهيئات، ومن الحفلات التي تقام في المناسبات، ومما تقع عليه العين المفتوحة والقلب الواعي في الشوارع والحدائق والأمكنة العامة ونحو ذلك. فهو يرى أن في كل منظر درسا وفي كل خطوة يخطوها فائدة. إذ ذاك تتجدد نفسه ويحيى قلبه وترتقي كل ملكاته ويصبح مخلوقا آخر جديدا، ويعود إلى بلده وقد اكتسب علما كثيرا وخبرة فائقة. تعلم من جامعته إلى جانب دروسه الخاصة أساليب التعليم في البلد الذي سافر إليه في مراحل التعليم المختلفة، وتعلم نظام الأسرة من البيت الذي نزل فيه وما دار فيه من أحاديث وما حدث فيه من أحداث. وعرف الشعب الإنجليزي أو الفرنسي مما شاهده في الشارع ودور السينما والتمثيل وما اشترك فيه من رحلات ومن معاملاته اليومية مع الناس، وهكذا أمتع نفسه وقلبه وعينه في حدود المعقول، وأمتع عقله في حدود المعقول أيضا.
وكما اختلف المتعلمون في أوروبا هذا الاختلاف الذي شرحته اختلفوا كذلك في مسلكهم بعد عودتهم إلى بلادهم.
فمنهم الذي عاد إلى بلاده يشيد بمجالي اللهو في أوروبا ويفيض في وصف مغامراته النسائية ويعرج على النماذج الوضيعة من ذلك كله في بلاده فيحتقرها، ويعلن أنه يتمنى العودة إلى النعيم الذي كان ينعم به في إنجلترا أو فرنسا. أما وقد حالت الحوائل بينه وبين عودته فهو ينتهب اللذائذ في بلاده على وضاعتها ما أمكنه مترقبا اليوم السعيد الذي تتاح فيه الفرصة للسفر إلى الخارج حتى يعب من لذائذها وينهل؛ فالحياة في نظره لذة منتهزة ولذة مرتقبة ولذة مأسوف على ضياعها ولا شيء غير ذلك، فإن كلف عملا جديا فعلى هامش الحياة.
ومنهم من عاد وكأنه لم يخرج من بلده، إلا علما حصله أو شهادة نالها، أما نظرته إلى الحياة وانسجامه مع الحياة الأولى التي كان يحياها قبل سفره فلم يتغير منها شيء.
ومنهم من استفاد فائدة كبرى من أوروبا في علمه ونظرته الاجتماعية ومعرفته بكثير من دقائق الحياة في البلاد التي رحل إليها، ولكنه لما عاد إلى مصر فسرعان ما دب إليه اليأس ... اصطدم بالفوضى في إدارة البعثات وفي وزارة المعارف وفي وزارة المالية، وتذكر ما كان قد نسيه من ورق يغيب بين الإدارات أشهرا من غير أن يبت فيه، وورق يسار فيه بسرعة البرق لأن صاحبه «محسوب»، ورأى مستحقا يهمل وغير مستحق يكافأ، ورأى البيوت وهرجلتها والشوارع وفوضاها والناس وقذارتهم والفقراء وبؤسهم، وقارن بين ما كان يعيش فيه من نظام وعدالة ونظافة وأناقة، وما أصبح يعيش فيه في بلده من اضطراب وارتباك وظلم وقذارة. وحاول أول الأمر أن يغير شيئا من ذلك فلم يستطع، فيئس واستسلم وطوى نفسه على حزن عميق، وأصبحت حالته حالة من فقد عزيزا عليه لا أمل في عودته وإنما يتسلى بذكراه. •••
كل هؤلاء - يا بني - قد رأيت نماذج منهم، ولا أحب أن تكون أحدهم، إنما أحب - إذا عدت وقد اكتسبت علما ونفسا وقلبا - أن تنظر إلى عيوب قومك فترحمهم، ونقائصهم فتشفق عليهم، وتجتهد - ما أمكنك - في إصلاحهم فإن لم يمكنك الإصلاح العام، فحاول الإصلاح في بيئتك الخاصة ... وفي طلبتك الذين تعلمهم والأساتذة الذين تخالطهم والبيت الذي تنشئه والصديق الذي تجالسه، وفي هذا القدر كفاية للرجل الطيب المحدود الإرادة. فإذا اتسعت إرادتك وقويت عزيمتك وشغلت بعد منصبا رئيسيا استطعت أن تنشر نفوذك وتعمم إصلاحك. •••
لو أن كل مبعوث إلى أوروبا تعلم ونضج ثم عاد ويئس لكان من الخير ألا يبعث؛ لأنا بذلك نخلق جوا من اليأس خانقا، وقلة العلم مع الأمل والطموح خير من كثرته مع اليأس والقنوط.
إن الأمة ترسل مبعوثيها ليكونوا خير ذخيرة لها وقادة إصلاحها ومتزعمي نهضتها، فإن هم استولى عليهم «القرف» واقتصروا على التقزز مما يرون وإطلاق ألسنتهم بالعيب في أمتهم والإشادة بذكر أوروبا ومحاسنها كانت خسارتنا فيهم مضاعفة ... خسارة في الأرواح وخسارة في الأموال وخسارة في خلق أعداء للأمة من ذاتها. •••
إن كل مبعوث فبعثته دين عليه لأمته لأنها ربته أولا في أحضانها ثم أنفقت عليه من مالها لينضج في خارجها، فإن هو جحد الدين فتجهم لها وأنكر صنيعها كان أكبر غادر وأخس جاحد.
إن أكثر هؤلاء - يا بني - يتعللون بأنهم حاولوا الإصلاح فلم يفلحوا، وجدوا في تنظيم ما فسد فلم ينجحوا، ثم لم يجدوا أمامهم إلا أن يرضوا بحالهم، أو أن يسيروا مع التيار فيفسدوا مع المفسدين ويشيعوا الفوضى مع المشيعين، ويطلقوا مثلهم الأعلى ويقتصروا على التملق لأخذ درجة أو الحصول على منصب؛ ولكني أعيذك بالله أن تكون واحدا من هؤلاء الممسوخين الذي ردوا أسفل سافلين. إن هؤلاء إنما جرفهم التيار لضعف قوتهم ونكصوا على أعقابهم لانعدام شخصيتهم، والرجل القوي الإرادة العظيم الشخصية يفرض إرادته ويحقق شخصيته، ويحول التيار ولا يجرفه التيار - وهذا ما حدث فعلا من أشخاص تعلموا في أوروبا ثم عادوا فصبروا على ما أوذوا وعاندوا في محاربة الرذيلة والانتصار للفضيلة حتى أدركوا بعض غايتهم وحققوا شيئا من أملهم.
ومع الأسف كان عدد هؤلاء الممتازين قليلا، بل أقل من القليل؛ فلو نظرنا إلى عدد المبعوثين من عهد محمد علي للآن لوجدناهم يعدون بالآلاف ولوجدنا من أفاد منهم لا يعد إلا بالعشرات، وإني أرجو لك أن تكون من هذا القليل النافع لا من الكثير الفاشل. •••
إن أكثر من كانوا قبلك قد فسدوا لأنهم سافروا لأخذ شهادة وعادوا لأخذ درجة. فليكن سفرك أنت للمعرفة والعلم وعودتك للإصلاح والنفع، والله يوقفك.
3
أي بني:
أكتب إليك هذا في أواخر مارس، موسم الربيع، وموسم الجمال، وموسم البهجة؛ والدنيا - كما قال أبو تمام:
دنيا معاش للورى حتى إذا
جاء الربيع فإنما هي منظر
ولشد ما آسف إذ أرى مدارسكم وجامعاتكم تعني بالعقل فتضع له المناهج الطويلة العريضة في مختلف العلوم، وتمعن في الإجرام فتقلب الآداب والفنون إلى علوم عقلية، أو نظريات فلسفية، وتعني بالجسم فتنظم له الألعاب الرياضية، وتقيم له مباريات السباق وكرة القدم ورفع الأثقال ... ثم لا تقيم وزنا ولا تضع منهجا للذوق وتربيته، وهو الأحق بالعناية والأجدر بالرعاية؛ فإن قصرت مدارسك وجامعاتك في ذلك، فتول أنت تربية ذوقك بنفسك، ووجه إليه كل همتك. فما الحياة بلا ذوق، وما الدنيا بلا جمال؟ وجزى الله خيرا من وجهني إلى الجمال فهويته، ورتبت في شبابي بائع الزهور بجانب بائع الخبز واللبن، فأعجبت بالورد وجماله، وبديع ألوانه، وبالزهور على اختلاف أنواعها، في تناسقها وانسجامها، فكان هذا متعة لنفسي وحياة لروحي بجانب متعة عقلي.
أي بني!
إن الذوق عمل في ترقية الأفراد والجماعات أكثر مما عمل العقل. فالفرق بين إنسان وضيع وإنسان رفيع، ليس فرقا في العقل وحده، بل أكثر من ذلك فرق في الذوق. ولئن كان العقل أسس المدن، ووضع تصميمها، فالذوق جملها وزينها. إن شئت أن تعرف قيمة الذوق في الفرد، فجرده من الطرب بالموسيقى والغناء، وجرده من الاستمتاع بمناظر الطبيعة وجمال الأزهار، وجرده من أن يهتز للشعر الجميل، والأدب الرفيع، والصورة الرائعة، وجرده من الحب في جميع أشكاله ومناحيه، ثم انظر بعد ذلك ماذا عسى أن يكون وماذا عسى أن تكون حياته.
وإن شئت أن تعرف قيمة الذوق في الأمة، فجردها من دور فنونها، وجردها من حدائقها وبساتينها، وجردها من مساجدها الجميلة الجليلة، وكنائسها الفخمة، وعمائرها الضخمة، وجردها من نظافة شوارعها، وتنظيم متاحفها، ثم انظر بعد ذلك في قيمتها، وفيما يميزها عن غيرها من الأمم المتوحشة والأمم البدائية.
أي بني!
إني لأرثي لحال كثير من شبان اليوم، لا يعرفون الجمال إلا في وجه فتاة، ولا يعرفون الذوق إلا في أناقة الحديث معها، والتظرف إليها، مع أن في الدنيا جمالا يفوق هذا بمراحل، وللذوق مجالا يجد فيه من المتعة ما يقصر عنه الوصف؛ ولكنهم عدموا الذوق وتربيته فلم يلقفوا معانيه ونواحيه ومداه إلا في حدود ضيقة.
أي بني!
إن للذوق مراحل كمراحل الطريق، ودرجات كدرجات السلم. فهو يبدأ بإدراك الجمال الحسي: من صورة جميلة، ووجه جميل، وزهرة جميلة، وبستان جميل، ومنظر طبيعي جميل، ثم إذا أحسنت تربيته ارتقى إلى إدراك جمال المعاني: فهو يكره القبح في الضعة والذلة، ويعشق الجمال في الكرامة والعزة، وينفر من أن يظلم أو يظلم، ويحب أن يعدل ويعدل معه، ثم إذا هو ارتقى في الذوق كره القبح في أمته، وأحب الجمال فيها، فهو ينفر من قبح البؤس والفقر والظلم فيها، وينشد جمال الرخاء والعدل في معاملتها، فيصعد به ذوقه إلى مستوى المصلحين. فالإصلاح المؤسس على العقل وحده لا يجدي، وإنما يجدي الإصلاح المؤسس على العقل والذوق جميعا. ثم لا يزال الذوق يرقى إلى أن يبلغ درجة عبادة الجمال المطلق والفناء فيه.
فعلى هذا الأساس نظم ذوقك: استشعر الجمال في مأكلك وملبسك ومسكنك، وصادق الزهور وتعشقها، ثم انشد الجمال في مجالي الطبيعة ومد بين قلبك ومناظر البساتين والحدائق - والسماء ونجومها، والشمس ومطلعها ومغيبها ، والبحار وأمواجها، والجبال وجلالها - خيوطا حريرية دقيقة تتموج بموجاتها، وتهتز بهزاتها، ثم انظر إلى الأخلاق على أن فضائلها جمال، ورذائلها قبح، لا على أن فضائلها منفعة ورذائلها متلفة، ثم غن للجمال واهتف به حيثما كان، واعبده وافن فيه، وأنا واثق أن ستسعد بذلك سعادة لا يتذوقها ذوو الشهوات، ولا أصحاب رءوس الأموال، بل ولا الفلاسفة والعلماء.
بل إني أجزم لو وجدت طائفة كبيرة من أمثال هؤلاء الذين رقى ذوقهم إلى هذا الحد في أمة، لنهضوا بها وأعلوا شأنها؛ إن أمثال هؤلاء من أصحاب الذوق الرفيع لو تولوا شئون السياسة ورياسة الأحزاب لكانوا مثلا في حب الخير، ورقة القلب، وإدراك ما يجب أن يعمل وكيف يعمل، وما يجب أن يترك وكيف يترك، ولو كان أمثال هؤلاء رؤساء مصالح، أو مديري أعمال، لوجهوا همتهم لإتقان عملهم، وإيصال الخير لذويهم، وتحري وجوه النفع لمن يلوذ بهم، وإنما أفسد هؤلاء جميعا قلة الذوق لا قلة العقل. فأنت إذا رأيت الشوارع لا منظمة ولا نظيفة، والأمور الصحية مهملة لا يعنى بها، والفلاح بائسا فقيرا، أو رأيت معاملة الناس بعضهم بعضا جافة سيئة، تحدث ضوضاء وجلبة، كالآلة لم تزيت، أو رأيت العداوة والحقد والخصومة بين رجال الأحزاب السياسية، أو رأيت رجال الحكومات تعني بمناصبها أكثر مما تعني بمصالح رعيتها، فاعلم أن منشأ ذلك فقدان الذوق الرفيع لا العقل النابه.
أي بني!
إنك محتاج إلى مجهود جبار، وإرادة قوية لتربية ذوقك، وإرهاف شعورك بالجمال، فكل ما حولك مفسد للذوق متلف للمشاعر السامية: بيوت لم يعن فيها بالجمال، وشوارع لم يعن فيها بنظافة ولا نظام، وترام تكدس فيه الناس أسوأ مما تكدست علب السردين، وهرجلة وفوضى وضوضاء في دور المحاضرات والسينما والتمثيل، ومهاترة غير نبيلة بين الجرائد الحزبية، وارتباك واضطراب وسوء معاملات في المكاتب الحكومية وغير الحكومية، ورؤية البؤس والمرض والفقر والجهل والقذارة على الأرصفة في المدن، وبين الفلاحين في القرى، وبين العمال في المصانع، ونبو في أحاديث المتحدثين، وفي النكت بين المتنادرين، ومئات ومئات غير ذلك، وكلها كفيلة أن تفسد الذوق وتقضي عليه. فتربيتك لذوقك واحتفاظك به ساميا لا يتأثر بهذه المفاسد، أمر عسير لا ينال إلا ببذل الجهد وقوة العزم.
أي بني!
أتذكر يوم كنت تشكو لي من شدة غضبك وهياج أعصابك، وكثرة احتكاكك ومصادماتك، إذا ركبت السيارة العامة أو الترام، أو ذهبت إلى السينما، أو أردت قضاء مصلحة في ديوان من دواوين الحكومة يوم - كنت في مصر - ثم كتبت إلي من سويسرة تذكر أن قد هدأت أعصابك، وزال غضبك، ولم تجد ما يسبب الاحتكاك والاصطدام؟ إن كنت تذكر ذلك فالآن أذكر لك أن مرده كله للذوق، فإن الذوق إذا شاع في مكان، شاعت فيه السكينة والطمأنينة، ونعومة المعاملة، وجمال السلوك، وإن انعدم أو قل في مكان خشنت المعاملة، وساء السلوك، وكثر هياج الأعصاب واضطرابها وارتباكها.
أي بني!
لقد جربت الناس فوجدتهم يخضعون للذوق أكثر مما يخضعون للمنطق، فبالذوق لا بالعقل تستطيع أن تستميلهم، وأن تأسرهم، وأن توجههم، وأن تصلحهم إن شئت، أما العقل وحده فلا يستطيع أن يأسر إلا الفلاسفة وقليل ما هم.
أي بني!
ليس عندي نصيحة لك أغلى من أن تكون ذوقك ثم تنميه وترقيه. فإن فعلت ذلك ضمنت لك سعادة الحياة والاستمتاع بها، وضمنت لك سمو أخلاقك ونبل عواطفك، وضمنت لك نجاحك على قدر كفايتك، والله يوفقك.
4
أي بني!
أشد ما يقلقني عليك في هذه الأيام وجودك وسط تيارات تتنازعك، وأمواج تتقاذفك، أخشى أن تتغلب عليك فتغرقك، وأن تنال منك فتميتك، فكم رأيت لها من ضحايا أزعجتني، ومن مشاهد غرقى أفزعتني، وإني أرجو لك من صميم قلبي السلامة من هذه التيارات، والنجاة من هذه الأمواج.
فأول هذه التيارات، التيارات السياسية ... وهي في نظري نوعان: سياسة قومية، وسياسة حزبية. فالسياسة القومية كالتي يكون الجهاد فيها ضد المستعمر والمحتل والغاصب. وقد قام الطلبة فيها بأدوار رائعة أفادت البلاد وقربتها من الاستقلال، كإضرابهم يوم اعتقل سعد باشا، ونفي إلى سيشل، ونحو ذلك. والسياسة الحزبية كأن يعمل بعض الطلبة لنصرة حزب على حزب، وإثارة الشغب لعرقلة سير الحكم. فإذا جاء الحزب السعدي في الحكم مثلا، انتهز الطلبة الوفديون أية فرصة للشغب عليه، وإذا جاء الوفديون في الحكم شغب عليهم الطلبة السعديون، وهكذا، من غير منفعة قومية واضحة، ولا نتيجة مفيدة بينة، إلا الرغبة في تولية حزب وتنحية حزب، والطلبة في مثل هذه الحال، إنما يهدم بعضهم بعضا من غير كسب واضح للأمة ولا تحقيق مصلحة عامة، وقد كثر - مع الأسف - هذا النوع من الإضراب حتى شل حركة التعليم بأجمعها، وأفسد الحياة العلمية من أساسها. فلو حسبنا أوقات انتظام الدراسة في الجامعات والمعاهد العالية لما حصلنا على دراسة منتظمة تستغرق ثلاثة أشهر كاملة، وحسبك هذا نتيجة مرعبة. فما معنى هذا؟ أليس معناه أن الطلبة إما أن يرسبوا في الامتحان، فنكون قد أضعنا على كل طالب رسب، سنة من حياته، وأضعنا على الأمة عددا كبيرا من السنين يساوي عدد الراسبين ... وإما أن ينجحوا بسبب التساهل في الامتحان، فنكون قد منحنا الشهادات للعاجزين وأخرجنا للأمة طبيبا عاجزا ومهندسا غير ناضج وزراعيا غير مستأهل، وفي هذا أكبر الضرر على الأمة. ولو نحن تحملنا هذه التضحية لتحقيق فائدة للأمة أكبر منها لهان الأمر، ولكنا نبذلها لقيام حزب في الحكم مكان حزب، وما أقل ذلك مكسبا!
أي بني!
إنني أرتضي لك الاشتراك في السياسة القومية والأعمال التي تعمل لنيل الأمة استقلالها وضمان تقدمها على شرط واحد، وهو أن يظهر رؤساء الأحزاب وقادة الأمة فيعلنوا خطتهم ويطلبوا من الطلبة معونتهم، فإذ ذاك يجب أن تستجيب لهم، أما أن يختفي القادة من الميدان ويظهر الطلبة من غير قادة فإذ ذاك يكون شأنهم شأن الجند في الميدان من غير ضابط، والجيش من غير «أركان حرب» ... وهذا عرضة لتضارب السير للجيش الواحد وعمله على غير خطة، وانقسامه سريعا، وانهزامه سريعا.
أما السياسة الحزبية فإني أرتضيها لك رأيا ولا أرتضيها لك عملا، فاعتنق آراء الحزب السياسي الذي تؤمن به ويدلك الدرس على صحتها، ولكن يجب أن لا يتحول ذلك إلى إضراب. فالإضراب في هذه الحالة تعطيل للدرس من غير أن يكون له مبرر كاف، وحتى هذا لا أفهمه اليوم فهما كاملا، إنما أفهمه يوم يكون هناك برنامج معروف لكل حزب، فيكون للوفد مبادئ محصورة محدودة في الإصلاح السياسي والاقتصادي والاجتماعي، ويكون للسعديين، والأحرار الدستوريين ونحوهم مبادئ كذلك ... إذ ذاك تقرأ المبادئ وتقارن بينها، وتفضل بعضها على بعض، وتؤمن بما تفضله.
أما أن يكون اختيارك للحزب مبنيا على أساس أن رئيسه فلان ورئيس الآخر فلان، فنظرة كنظرة الطفولة تعرف الأشخاص ولا تعرف المعاني، تعرف الأبيض ولا تعرف البياض، وتعرف الأب ولا تعرف الأبوة. أما الرجل الناضج فيقوم المعاني والمبادئ ويحاسب الزعماء على سيرهم أو انحرافهم عن هذه المعاني وهذه المبادئ، وهذا ما يحدث في الأمم الراقية، وما لم يحدث في الأمم الشرقية جميعا.
أي بني!
إنك وأمثالك تفهم السياسة على أنها فكرة عارضة ورأي عابر، وأنها من السهولة بحيث يمكنك الحكم على مسائلها بمجرد النظر إليها، والتفكير السطحي فيها، وهذا خطأ أي خطأ. إن السياسة علم كسائر العلوم، كعلم الهندسة والطب والطبيعة والكيمياء، فهل تبيح لمن لم يدرس الطب أن يكون طبيبا، ولمن لم يدرس الهندسة أن يكون مهندسا؟ فلماذا تستبيح لنفسك أن تكون سياسيا ولم تدرس علم السياسة؟ ولماذا ترضى أن تحكم على الأشياء حكما سياسيا من غير درس ...؟ بل أؤكد لك أن السياسة علم أصعب من هذه العلوم التي ذكرتها، تحتاج إلى دراسة تاريخ وجغرافيا واجتماع كمقدمات لها، ثم تحتاج إلى دراسة النظريات السياسية واختلاف الآراء فيها والتطبيق عليها، ومتى طبقت بنجاح، ومتى طبقت بفشل، وأسباب النجاح وأسباب الفشل. وكثيرا ما يعرض الأمر السياسي، فيبدي فيه عامة الناس آراءهم، ثم يكون هذا الرأي خطأ فاحشا وضررا بليغا؛ لأنهم لم يدرسوا الأمر درسا دقيقا عميقا في أسبابه ونتائجه. لهذا كله أبيح لك أن تشتغل بالسياسة على سبيل التجربة والمران، لا على سبيل الاشتراك الفعلي. فالبت في أمور السياسة من عمل الساسة الذين انقطعوا لها ودرسوها درسا وافيا، وبنوا آراءهم على دراستهم، فإذا رأوا أن يستعينوا بكم فلتستجيبوا . أما أن تتزعموا الحركات من غير قيادة ... فطبيب يداوي من غير علم، ومهندس يبني من غير خبرة، وجندي يتزعم الجيش حتى الضباط والرؤساء، وهذا قلب للوضع وإفساد للنظام.
إني أفهم أن تكون طالبا في جامعتك أولا ومتمرنا على السياسة ثانيا، أما أن تكون متمرنا على السياسة أولا وطالبا ثانيا، فمناف لطبيعة الأشياء. فكيف إذا وضعت نفسك موضع الزعيم السياسي، والقائد للجيش، وجعلت حياتك العلمية هامشا لحياتك السياسية؟! إن هذا خطأ منك آسف له إن صدر عنك كابن لي، وكفرد في أمة.
أي بني!
إن أردت أن تعرف وجه الحق في هذا الأمر، فاستعرض ما كسبته الأمة من حركات الطلبة وما خسرته. لقد كسبت من حركاتهم يوم كانت موجهة إلى عدوهم الخارجي ويوم كانت حركة منظمة صادرة من رأي الزعماء، وكانت لا تظهر إلا حين يجد الجد ويعزم الأمر. فإذا هم فرغوا من مهمتهم رجعوا إلى دراستهم في جد ونظام، وخسرت من حركاتهم يوم كان الطلبة يضربون لا إحراجا للعدو، ولكن ليضرب بعضهم بعضا، ولينصروا حزبا على حزب، وليجلسوا حزبا في الحكم ويخرجوا منه حزبا ... وخسرت الأمة يوم كان الطلبة يضربون لأتفه سبب وأضعف غاية.
في الحالة الأولى ربحت الأمة واحتفظت الجامعات بكيانها وقوتها وأداء رسالتها، وفي الحالة الثانية خسرت الأمة وتفككت الجامعات وانحل رباطها وتدهور العلم فيها، وليس يصلح ما فسد إلى بجهود جبارة وإصلاح شامل وتضامن بين الأحزاب كامل.
أي بني!
كنت أود أن أحدثك عن تيارات أخرى ليست بأقل خطرا مما حدثتك، ولكن طالت رسالتي وخشيت عليك الملل. فإلى اللقاء، والله يحفظك.
5
أي بني!
إني لأشفق عليك من زمنك الذي نشأت فيه، فقد كان زمن من قبلك هادئا مستقرا، تجري شئونه على وتيرة واحدة ... وأملنا في المستقبل أن يكون زمنا هادئا مستقرا كذلك.
أما زمنك هذا فقلق مضطرب حائر، كفر بالقديم، ثم لم يجد جديدا يؤمن به.
قد كانت الأمور في زمننا سائرة سيرا منظما، وإن لم يكن حسنا ولا كاملا. كان من تحدثه نفسه بالرشوة يخشى افتضاح أمره ونزول العقوبة به، وكان من يقصر في عمله ينال العقوبة على تقصيره، وكان الطالب إذا طاف به طائف من الإضراب أو الخروج على أمر الأستاذ فكر طويلا قبل أن يقدم، وقل أن يقدم، وكان الناس يخشون أن ينحرفوا - ولو قليلا - عن الأوضاع المألوفة والتقاليد الموروثة، خوف أن ينقدهم ناقد أو يعيرهم معير. ثم زال كل هذا الخوف وتحرر الناس من كل هذه القيود، ولكن لا يستقيم أمر الناس مع هذه الفوضى ومع هذه الحرية التي لا حد لها، وإنما استقام الأمر في الأمم الراقية مع زوال هذا الخوف لأن الشعور بالواجب حل محل الخوف، وتبادل العطف بين الشعب والحكومة حل محل الرعب والاستبداد، وتحكيم العقل فيما يصلح وما لا يصلح من الأوضاع والتقاليد حل محل الطاعة العمياء، وهذا - للأسف - ما لم نصل إليه بعد. •••
أكبر ما يؤلمني فيك وفي أمثالك من الشبان، أنكم فهمتم الحقوق أكثر مما فهمتم الواجب، وطالبتم غيركم بحقوقكم أكثر مما طالبتم أنفسكم بواجباتكم، والأمة لا يستقيم أمرها إلا إذا تعادل في أبنائها الشعور بالحقوق والواجبات معا، ولم يطغ أحدهما على الآخر. وكل ما نرى في الأمة من فساد وارتباك وفوضى وتدهور نشأ من عدم الشعور بالواجب. فلو تصورنا الموظفين في المصالح الحكومية شعروا بواجبهم نحو الأفراد فأدوا ما عليهم في عدل وسرعة، وأدى الطلبة ما عليهم نحو دروسهم وجامعاتهم وأساتذتهم، وأدى الصانع ما عليه في صناعته، وأدت الحكومة ما عليها لشعبها، لاستقامت الأمور وقلت الشكوى، وسعد الناس بحكومتهم وسعدت الحكومة بشعبها، ولكن أنى لنا ذلك وحاجتنا شديدة إلى تفهم الواجب والعمل على وفقه؟
إن العلم في زمنكم أكثر أضعافا مضاعفة من العلم في زمننا، ولكن ليس نجاحكم في الحياة ولا سعادتكم فيها تناسب تقدمكم العلمي ... لأن العلم لا يفيد في السعادة والرقي إلا إذا صحبه الشعور بالواجب؛ والعلم كالمصباح قد تكتشف به طريق الهداية وقد تكتشف به طريق الضلال. •••
إن أسوأ ما كان في زمنك حدوث الحرب ... والحرب - عادة - تزلزل الأخلاق وتغري النفوس الضعيفة بالشره والجشع، وتقدم لنا أمثلة كثيرة ممن اغتنوا بعد فقر لأسباب خسيسة أو أعمال وضيعة، ثم تضغط على صغار الموظفين والصناع والتجار ... فيرون أنهم لا يستطيعون العيش الكافي في مجال رزقهم المحدود، فإذا هم لم يتحصنوا بالخلق المتين مدوا أيديهم وخربوا ذممهم. ولذلك كانت الحرب في أكثر الأمم مبعثا لفساد الخلق وخراب الذمم، وهي في الأمم الضعيفة أشد فتكا وأسوأ أثرا، وواجب المصلحين بعد الحرب أن ينشلوا الأمة من وهدتها وينقذوها من ورطتها؛ ولذلك تحتاج أنت وأمثالك في مثل هذا الموقف إلى مجهود كبير يعلي مستواكم ويرفع مثلكم، والأمل فيكم أكبر أمل، لأنكم رجال المستقبل وقادة الغد. فلا يستهوينكم من أثرى حولكم بالخداع والنفاق والكذب والرياء ... وخير أن تعيشوا فقراء أعزاء من أن تعيشوا أغنياء أذلاء.
إننا في هذا الزمان أحوج ما نكون إلى منارات تضيء للسائرين في لجج الظلام، يكون شعارهم القيام بالواجب مهما كلفهم - لأنه واجب - لا طلبا للصيت ولا جريا وراء المجد ... لا يعرفون المجاملة ولا النفاق، ولا يستهويهم وعد ولا يرهبهم وعيد، لسانهم مطابق لقلبهم، وعملهم متفق مع وحي ضميرهم ... فكن إحدى هذه المنارات.
إن الاحتفاظ بالخلق الطيب في زمنك أصعب منه في زمننا لكثرة ما يحيط بك من مغريات بالشر، فأسباب اللهو ميسورة في زمنك وقد كانت صعبة في زمننا ... وأفانين الخلاعة مغرية جذابة بفضل ما أدخلته المدنية الحديثة من أساليب فتانة، وقد كان الدين في زمننا حرزا منيعا من التدهور والسقوط، فلما ضعف شأن الدين في زمنكم ولم يحل محله ما يحفظ عليكم نفوسكم وقعتم بين شرين: قوة المغريات وضعف الحصون المانعات. ولا منجاة من هذا إلا بتقوية الإرادة وتدريبها على فعل الخير، ومقاومة بواعث الشر، ومكافحة الشهوات ومحاربة الأنانية. •••
أي بني!
بهذه المناسبة، أذكر لك أني شاهدت في حياتي كثيرا من الشبان كانوا صرعى الشهوات ... كانوا في حياتهم الجامعية لامعي الذكاء، يدل جدهم وسلوكهم على أن سيكون لهم مستقبل رائع. كانوا مثال الجد والنشاط والذكاء في دراستهم، ثم رأيتهم فجأة انحرفوا عن الطريق السوي وانغمسوا في شهواتهم؛ فخاب فيهم كل أمل، وفقدوا ذكاءهم اللامع، ونشاطهم السباق، وجدهم الباهر.
وهؤلاء الصرعى كانوا أشكالا وألوانا، فمنهم - وقد يكون أسوأهم - صرعى «الكيوف»، وهو داء - مع الأسف - فشا في كثير من الشبان، فأضاعوا مستقبلهم، وفقدوا إرادتهم، وانحطت نفسيتهم، وأضحوا لا يرجى منهم خير. وكان أسوأ مثل لهذا وأدعاه للحزن والأسف ما رأيت من شاب كان من أوائل الناجحين في البكالوريا، ثم التحق بكلية من الكليات العلمية فكان من أوائل الناجحين في سنته الأولى والثانية، وكان ذا حظوة عند أساتذته، وسمعة طيبة في علمه وخلقه عند زملائه، وفي آخر عامه الثالث من الكلية سقط في الامتحان ثم لم ينفع بعد، وبحث عن أمره فإذا هو صريع «كيف» من «الكيوف». وبلغ به الأمر أن صار يتسكع في الشوارع، ثم صار يستجدي الناس. فأعيذك بالله أن تكون صريع «كيف».
وهناك صرعى حب المال والجاه والمجد ... تخرجوا من جامعاتهم والتحقوا بالوظائف الحكومية أو الأهلية، ثم لم يقنعوا بمرتبهم الصغير ولا بطريقهم إلى الرقي البطيء، ورأوا زملاءهم اغتنوا من طريق بيع ذممهم، أو ارتقوا من طريق تزلفهم وتملقهم، أو اشتهروا عن طريق النصب والاحتيال ... فقلدوهم في ضلالهم وخسروا خسرانهم ... وأعيذك بالله - أيضا - أن تكون أحدهم. •••
إن طريقة هؤلاء في الحياة طريقة المقامرين، ولا أريدك مقامرا، ولكني أريدك تاجرا ... ولا أريدك مستهترا، ولكن أريدك عفيفا معتدلا. لا يغرنك مظهر الذين انغمسوا في شهواتهم واندفعوا وراء لذاتهم، وما يخدعونك به من سرورهم وابتهاجهم وضحكهم ... فحسبة بسيطة للذات هؤلاء وآلامهم، تريك أن الاعتدال في اللذائذ أكبر لذة وأقل ألما. إن الانهماك في اللذائذ كنار القش تلتهب سريعا وتنطفئ سريعا، والاعتدال في اللذائذ كنار الفحم تطول مدتها ويطول الانتفاع بها ولا تخمد إلا ببطء. احسب حساب من اعتدل في لذائذه، كيف احتفظ بصحته واحتفظ بماله واحتفظ بسمعته، والتذ في حياته لذة طويلة هادئة ممتعة لم يعقبها ألم ... واحسب حساب من أفرط في لذته، ففقد صحته وماله وسمعته، وكانت آلامه الطويلة أضعاف لذائذه القصيرة ... حتى في حساب اللذة والألم نرى الاعتدال خيرا من الإفراط، فما بالك إذا قسنا ذلك بمقياس الخلق والفضيلة والنبل والمروءة؟
كذلك لا يغرنك من علا صيتهم من طريق التهريج، ولا من تخطوا زملاءهم من طريق التزلف، ولا من كسبوا المال من طريق مد اليد ... فكل هذه المظاهر الكاذبة، لو وزنت بحياة الضمير وعلو النفس وطمأنينة الاستقامة لم تساو شيئا. فليكن مبدأك الشعور بالواجب، والاعتدال في اللذائذ، وطهارة النفس، والحرص على الشرف، والسعي وراء النبل والمروءة ... ولتكن النتيجة بعد ما تكون ... ومع ذلك فإني ضامن لك النجاح.
6
أي بني!
لعل أهم ما يتميز به جيلكم عن جيلنا هو حيرتكم واطمئناننا، واضطرابكم وسكينتنا، وقلقكم واستقرارنا، ولكن ما سر هذه الحيرة وهذا القلق والاضطراب في جيلكم؟
لقد كان المظنون أن تكونوا أسعد حالا، وأهدأ بالا وأكثر اغتباطا بالحياة، فإن المدنية الحديثة قدمت إلى جيلكم من متع الحياة وترف العيش ووسائل الترفيه عن النفس أضعاف أضعاف ما كنا نجده في جيلنا. فلم يكن عندنا راديو، ولا سينما، ولا تمثيل، ولا سفور، ولا موسيقى، ولا رقص، كالذي لكم في زمانكم. ولم يكن يتدفق المال علينا كما تدفق عليكم، ولا اتصلنا بالعالم وما فيه من لذائذ مثل اتصالكم، بل ولا نعمنا بالحرية كما نعمتم، ولا حققنا أنفسنا كما حققتم، فما الذي حيركم؟
لعل أهم ما حيركم وطمأننا، أننا كنا نركن إلى مبادئ وعقائد نؤمن بها كل الإيمان، ونسير عليها في حياتنا من غير شك، ونشجع السير عليها كل التشجيع، ونحتقر من خرج عليها كل التحقير ... فكانت أعمالنا تصدر عنا كما يصدر العمل عن عادة، ليس يحتاج الإتيان به إلى إلى روية ولا تفكير. ثم أتى جيلكم - خضوعا للمدنية الحديثة - فطوح بهذه المبادئ والعقائد والعادات والتقاليد، ولم ينشئ مكانها ما يسد مسدها ... فكان من ذلك فراغ لم يملأ، ومبادئ زالت ولم تعوض، وعقائد تهدمت ولم يبن مكانها؛ والطبيعة تكره الفراغ، وتكره السير على غير هدى، وتكره الهدم من غير بنيان، فكانت الحيرة والقلق والاضطراب.
قد كانت السلوة الكبرى للناس في جيلنا دينهم، فكانوا يؤمنون بالله، يعرفونه في الرخاء ويلجأون إليه في الضراء والسراء، ويركنون إليه إذا اشتد الخطب، ويفزعون إليه إذا نزل الكرب ... فيجدون في ذلك كله راحة من عناء، وعونا على الخير، وصيانة من الشر، وعزاء عند الشدائد. فلما نبت جيلكم وازدهر شبابكم عصفت عليه عاصفة من المدنية الحديثة، فذهبت بدينكم، وجردتكم من عقيدتكم، فلم تجدوا أرضا ترتكزون عليها ولا ركنا شديدا تأوون إليه.
والأنس بالدين طبيعة النفس وراحة الروح، فإذا سلبت من تأنس به أحست بالوحشة وتململت من الفراق. إن الناس يعدون الحواس خمسا، ولكني أعتقد أن هناك في كل إنسان حاسة سادسة هي حاسة الدين ... من فقدها فقد عنصرا هاما من عناصره، وركنا عظيما من أركان حياته؛ ولذلك هدأ المؤمن واضطرب الملحد، وهذا هو الشأن في الشرق والغرب، والمدنية القديمة والمدنية الحديثة.
لقد مر على العالم الغربي نحو قرنين، آمن الناس فيهما بالعلم كل الإيمان، واعتقدوا أن النظم السياسية والاقتصادية قادرة على إسعاد العالم ... فلما تقدم العلم وتقدمت النظم السياسية والاقتصادية ولم يروا سعادة، بل شقاء تلو شقاء، وحربا هائلة بعد حرب فاجعة، بدأ يتزلزل إيمانهم بأن العلم وحده كاف لإسعاد الناس، وأيقن كثير من العلماء بأن العلم في حاجة إلى الدين، وأن العقل في حاجة إلى القلب، وأن المنطق في حاجة إلى الحكمة.
وقد حكي أستاذ أنه سأل طلبة متقدمين في جامعات مختلفة حول سنة 1930: ماذا يؤملون في مستقبل العالم؟ فكانت أكثر إجابتهم مبنية على الأمل في العلم. فلما اضطربت الدنيا وتأهب العالم للحرب الثانية أعاد السؤال على أمثالهم، فكانت أكثر إجاباتهم أن لا أمل إلا بعون من الله.
أي بني!
إن الإيمان بالله يملأ فراغ النفس، ويحوي بالطمأنينة، ويوثق الصلة بين الفرد وأهله ووطنه، كما يوثق الصلة بينهم جميعا وبين الله.
فنصيحتي لك أن تؤمن ولو ألحد الناس، وتوثق الصلة بينك وبين الله ولو قطعها الناس.
أي بني!
وشيء آخر أحب أن أقصه عليك كان سببا في حيرة جيلك واضطرابه، ذلك أنكم لما فقدتم الدين لم تدخلوا الآخرة في حساب الحياة كما يتطلب الدين، وعشتم للدنيا وحدها من غير نظر إلى ثواب ولا عقاب ... فنشأ عن ذلك مرض خطير وشر مستطير زاد في حيرتكم وقلقكم، وهذا هو ما ألمحه فيكم من أنانية مفرطة وأثرة جامحة.
إني لأشعر أن كل فرد منكم يريد أن يعيش لنفسه فقط ... فهو في أسرته يريد أن ينال أكبر حظ من اللذة وأقل حظ من الألم، حتى لو استطاع أن يستولي على ميزانية البيت كلها ويترك أهله يتضورون جوعا لفعل. وهو في حياته الخارجية يجري وراء شهوته ولذته مهما كانت العاقبة، ولو آذى أهله ولو آذى وطنه ... وهو إذا وظف بحث عن الترقية من أي سبيل شريف أو خسيس، بل وقد تضطره أنانيته إلى أن يمد يده، ثم هو لا يشعر بمسئوليته نحو أهله ولا نحو وطنه ولا نحو أصحاب المصالح الذين يترددون على بابه ... إنما يبحث عما يسد شهوته ويملأ أنانيته.
لقد آلمني جد الألم ما سمعت عن أستاذ في كلية من كليات الجامعة كان يقرأ على طلبته فصلا من كتاب لابن المقفع يتكلم فيه عن الفضائل من صدق وعدل ونحو ذلك، ويذكر أن هذه الوسائل للنجاح في الحياة. فهاج بعض الطلبة وقالوا: إن هذا الكلام «بدع» قديم، قد كان يصلح في العصر القديم. أما اليوم فوسيلة النجاح التهريج والوصول إلى المنفعة الشخصية من أقرب طريق ... بالصدق أو بالكذب، بالحق أو بالنفاق أو الملق.
إن كان هذا هو شعار الجيل الجديد فويل لنا وللأمة كلها من هذا الجيل الجديد!
إن جيلكم معذور بعض العذر لأنكم لم تجدوا أمامكم مثلا عليا كثيرة تضحي لخيركم، وتسوس الأمة بالعدل والنزاهة والصدق والإخلاص لمصلحة وطنكم، ورأيتم أمثلة لمن التزموا الصدق والعدل والإيثار فعاشوا فقراء وماتوا فقراء، ومن هرجوا وكذبوا ونافقوا فتسلقوا الحائط ووصلوا إلى الذروة، فكفرتم بالمبادئ الأخلاقية والفضائل النفسية، ولكن أليس هذا قصرا في النظر، وسوءا للتقدير، وفسادا في التقويم؟
سائل نفسك: هل أسعد الناس أرقاهم درجة في وظيفته، وأكثرهم مالا في دخله مهما فسدت نفسه ومات ضميره؟
وسائل نفسك: أي الرجلين أسعد حالا وأهدأ بالا وأكثر سكينة وطمأنينة ... أمن مات ضميره وزاد دخله من غير حساب لفضيلة ولا رذيلة ولا حلال ولا حرام؟ أم من حي ضميره فتلذذ بشرفه، وسعد بقناعته، واطمأن إلى سيرته، واغتبط بما يجريه الله على يديه من خير لأهله ووطنه؟
تصور بيتا يعيش فيه كل فرد لنفسه ... ألا يكون جحيما، ويكون أهله كاللصوص يتخطفون الغنائم ويتقاتلون على قسمتها؟ وتصور جيشا يعمل كل جندي وضابط فيه على أن ينجو بنفسه ويترك العبء على غيره ... هل يستطيع أن يقف في الميدان ساعة من غير هزيمة؟ وتصور أمة كل أفرادها يعيشون على التهريج ويبحث كل فرد منها عن لذائذه الشخصية وانتهابها بأي وسيلة ... هل تستطيع أن تعيش طويلا؟ إن البيت إنما يعيش بتضحية الآباء والأمهات، والجيش إنما يعيش بمن يقدم روحه فداء لوطنه، والأمة إنما تعيش بمن يتحمل المسئولية مهما لقي من جهد وعناء. والدنيا كلها أمثلة على أن الجماعة الصالحة للبقاء من غلب إيثارها أثرتها وتضحيتها أنانيتها، وإلا فلا أمل فيها ولا خير يرجى منها، ولولا تضحية أبيك وأمك ما كنت كما كنت، ولولا تضحية من حولك ما عشت. أفمن العدل أن تجازي الإحسان سوءا، والرحمة قسوة، والنعمة كفرا؟ صدقني أنه لا يتطلب اللذة الوضيعة إلا النفس الوضيعة، وأن البحث عن اللذة الفردية نتيجة قصر النظر وضيق الأفق، وأن النفس إذا تسامت ورقيت وجدت لذتها في لذة الناس وسعادتها في سعادة الناس ... وأن هذا الكلام وإن كان قديما لا يزال جديدا، وأن الحق حق في كل زمان ومكان، وأن الباطل باطل حيثما كان.
أي بني!
إن كان لي نصيحة تذهب بحيرتك وحيرة جيلك وتعيد الطمأنينة لنفسك ولأمثالك ... فالإيمان تملأون به قلوبكم ويملأ فراغكم ويتفق مع طبيعتكم، وأن تعيشوا لأنفسكم وللناس ولخيركم وخير الناس. فهذا هو الذي يساير ما طبعتم عليه، وإلا انتقمت الطبيعة منكم بمخالفتكم لقوانينها فسلطت عليكم السأم والملل والحيرة والقلق.
وقاكم الله شر ذلك.
7
أي بني!
لشد ما يؤسفني ما أرى في جيلكم من إفراط في اللهو، كما كان يؤلمني ما كنت أرى في جيلنا من إفراط في الجد. لقد عشت أنا في جيل كان أكثر طلبته لا يعرفون إلا بيوتهم ودروسهم وكتبهم ... فإذا أراد أحدهم أن يلهو وطاوعته ماليته، ذهب إلى دار تمثيل فاستمع للشيخ سلامة حجازي أو نحوه، مرة أو مرتين في السنة، وإذا قرأ مجلات أو جرائد فمجلات جادة وجرائد وطنية، وإذا عرف فتاة فقريبته تزور بيته مع أمها، أو يزور بيتها مع أهله، وإذا اجتمع الطلبة وأرادوا أن يتسلوا تنادروا على كتبهم ودروسهم، وقد يتنادرون - في أدب - على أساتذتهم. وعشت أنت في جيل لا يشبه الجيل القديم في شيء، عماده الحرية المطلقة، وقلة الشعور بالمسئولية، والنظر إلى اللذائذ المادية على أنها غاية الغايات. ينظرون إلى الكتب والدرس والأساتذة على أنها دواء مر يتعاطى للضرورة. والضرورة هي الشهادة فالوظيفة، ولإحساسكم بمرارتها ترحبون بكل ما يريحكم منها إضراب واعتصام ومطالبة بطول إجازات ونحو ذلك. وإذا قرأتم شيئا بجانب دروسكم قرأتم الكتب الرخيصة والمجلات الوضيعة التي تلهب الغرائز، وتقوي الشهوات، وتضعف الذكاء، وتبلد العقل، وفي كل يوم سينما أو تمثيل، وفي كل ساعة تليفون يرن لكم أو يرن منكم لمقابلة لاهية أو محادثة عابثة.
أي بني!
لقد غلونا في جدنا وغلوتم في هزلكم ... غلونا في جدنا حتى اكتأبت نفوسنا، وانقبضت صدورنا، ولم تتفتح للحياة كما يجب، ولم تبتهج لها كما ينبغي، وغلوتم في هزلكم حتى صرتم كالشيء التافه لا طعم له، وكالماء الفاتر لا ساخن ولا بارد ... وحتى صرتم شيئا رخوا ينكسر لأدنى ملامسة، أو هشيما تذروه الرياح. ويوم يجد الجد وتظهر المصاعب فتتطلب حمل المسئولية، نجد لكم أيديا مسترخية، وقلوبا متخاذلة، وإرادات واهية، أضعفتها كثرة الطلب للذة، وقلة التعود لمواجهة المصاعب، وحب الترف والنعيم.
ومن أجل هذا كثرت - مع الأسف - ضحاياكم، وعدت بالألوف صرعاكم. هؤلاء صرعى «الكيوف» لا أمل فيهم، ولا خير يرجى منهم، أصبحوا جثثا تتحرك كالأشباح، ومواد محطمة بلا أرواح؛ أضاعوا صحتهم، وأتلفوا مالهم، وخربوا نفوسهم، وجنوا على أسرتهم وأمتهم. وهؤلاء صرعى الحب البائس أو الحب اليائس، أو النزوة الوقتية من غير تقدير للمسئولية ... إلى غير ذلك من صرعى اللذات، وكلهم في الهم سواء. قد جرهم إلى هذا الوبال أن رأوا بعض زملائهم ذوي المكانة - لسبب ما - قد استهتروا فقلدوهم، وتوالت على سمعهم أن الدنيا لذة فوجهوا إليها كل قوتهم. ورأى هؤلاء القادة أنهم قد ضلوا، فأحبوا أن يشركوا معهم غيرهم فأضلوا، وبعثت إلينا أوروبا وأمريكا بملاهيها فاستهوت شبابنا، ووقر في نفوسهم أن أوروبا وأمريكا أرقى منا مدنية وأعلى مقاما وأعز جاها ... فقالوا ما علينا إذا سرنا في لهوهم سيرهم، ونعمنا بملاهيهم نعيمهم، وفاتهم أن في أوروبا وأمريكا علما يعادل اللهو، وجدا يوازن الهزل، وشعورا بالمسئولية يوازي الشعور بالحرية.
ولكن لم يجد جد أوروبا وأمريكا من يعرضه علينا كما يعرض الهزل، لأن وراء عرض الهزل أموالا طائلة وأرباحا وافرة، لا تؤاتي من يعرض الجد والعلم والمسئولية، فكان من الخطأ أن نأخذ جانبا وندع جانبا، وأن نتصور المدنية لعبا لا جد فيها، وحرية لا مسئولية معها.
أي بني!
لست أريدك أن تكون راهبا، فمتى خلقت إنسانا لا ملكا فلتكن إنسانا له ملذاته وشهواته في حدود عقله ومنفعته ومنفعة أمته. والقرآن يقول:
قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق
أريدك أن تفهم معنى اللذة في حدودها الواسعة لا الضيقة ... إن للذة درجات كدرجات السلم آخذة في الصعود، فأسفل درجاتها لذة الأكل والشرب واللباس، وما إلى ذلك، ومن غريب أمر هذه اللذة أنها تفقد قيمتها بعد الاستمتاع بقليل منها، فلكل إنسان طاقة من هذه اللذة يقف عندها، فإذا تعداها انقلبت ألما ... ثم هي ليست مرادفة للسعادة، فكثير ممن يأكلون الأكل الفاخر، ويلبسون اللباس الأنيق، ويسكنون القصور الفخمة، هم مع ذلك أشقياء ... فسعادتهم إنما هي في نظر غيرهم لا في نظر أنفسهم، ولو كانت هذه اللذة هي السعادة لكان هؤلاء أسعد الناس دائما.
ثم هذه اللذائذ قيمتها في الاعتدال فيها، وعدم التهافت على كسبها. إن شئت فاحسب حساب من أفرط فيها في فترة قصيرة من الزمن ثم فقد صحته، فلم يعد يستطيع أن يتابع لذته، وحساب من اعتدل فطال زمن لذته مضافا إلى لذته من صحته.
وأرقى من هذه درجة لذة العلم والبحث والقراءة والدرس ... فهذه لذة العقل وتلك لذة الجسم، وهذه أطول زمنا، وأقل مؤنة، وأبعد عن المنافسة والمزاحمة، والتقاتل والتكالب، وصاحبها أقل عرضة لتلف النفس وضياع الصحة.
وإن أردت الدليل على أنها أرقى من اللذائذ المادية، فاسأل من جرب اللذتين، ومارس النوعين، تجد العالم الباحث والفنان الماهر والفيلسوف المتعمق لا يهمهم مأكلهم وملبسهم بقدر ما تهمهم لذتهم من بحثهم وفنهم وتفكيرهم.
وأرقى من هذه وتلك لذة من وهب نفسه لخدمة مبدأ يسعى لتحقيقه، أو فكرة إنسانية يجاهد في إعلانها واعتناقها، أو إصلاح لداء اجتماعي يبذل جهده للقضاء عليه ... فهذه هي السعادة ولو مع الفقر، ولكن لا يصل إلى هذه الدرجة من اللذة إلا من رقى حسه وسمت نفسه.
أي بني!
إنك خلقت إنسانا ذا جسم وعقل وروح، وقد ربيت فنما جسمك، وثقفت فنما عقلك، وأرجو أن يكون قد صادفك في بيئتك ما نمى روحك، ولكل من هذه العناصر الثلاثة غذاؤه، ولكل لذته ... ولذة اللذائذ أن تستطيع أن تمد العناصر الثلاثة بغذائها ولذاتها من غير أن يطغى عنصر على غيره، فيختل التوازن ويضيع التعادل.
أي بني!
طالما دعوت ربي جاهدا أن يجنبك الزلل، ويقيك شر أصدقاء السوء، ويمنحك من قوة الإرادة ما تتقي به شر المغريات المغويات، وأن يهديك الصراط المستقيم والسلام.
8
أي بني!
لقد جئت في مفترق الطرق بين جيلنا وجيل من قبلنا وجيلك، ويخيل إلي أن الفرق بين جيلك وجيلنا أكبر جدا من الفرق بين جيلنا وجيل آبائنا، لأنك تتأثر بالمدنية الغربية أكثر مما كنا نتأثر ويتأثر آباؤنا ... بل إن المدنية الغربية نفسها تتطور تطورا كبيرا، فهي في القرن العشرين غيرها في القرن التاسع عشر والثامن عشر.
لقد ظلت المدنية الغربية تتطور إلى أن كان على قمتها القنبلة الذرية ... وهناك فرق كبير بين المدنية الغربية والمدنية الشرقية. فإن نحن تصورنا تعاليم الغرب هرما، كان أساسه الدعوة إلى العلم والتجربة ودراسة الحقائق، وقمته هي القنبلة الذرية. وإن تصورنا المدنية الشرقية هرما كانت دعامته الروحانية والإلهام وما إلى ذلك، وكانت قمته النبوة؛ وبناء على ذلك فرق كبير بين الفلسفة الغربية والفلسفة الشرقية.
إن المدنية الغربية تتميز بشيئين يظهران جليا في فلسفتها: الأول النظام وبحث المسائل بحثا منطقيا منظما تنبني نتائجه على مقدماته، ويتجلى ذلك في ديكارت، وكانت، وأوجست كونت، ونحوهم. والمسألة الثانية عنايتها بالحقائق أكثر من عنايتها بالقيمة، على عكس الفلسفة الشرقية في هذين الشيئين. فالفلسفة الشرقية ليست خاضعة لنظام ولا مقدمات منطقية تتبعها نتائج، كما يتجلى ذلك في كلام الجاحظ وابن المقفع والأحنف بن قيس ونحوهم، وهي أيضا تعني بالقيمة أكثر مما تعني بالحقائق، وأعني بالفرق بين القيمة والحقائق كالفرق بين من يعني بالقلب ووظيفته في الجسم، وبين من يعني بالقلب من حيث تركيبه وموضعه من الرئة اليسرى ونحو ذلك.
أي بني!
إن العالم اليوم كبوتقة الصائغ، تصب فيها كل العناصر من شرق وغرب وقديم وحديث، ثم تستغل كلها ليؤخذ خيرها، وهي تتطلب من الإنسان أن يكون مرنا واسع الصدر ... لا يزدري ما في الشرق لشرقيته، ولا يمجد الغرب لغربيته، وإنما يمجد الحق حيث كان. فنصيحتي أن تكون مفتح العينين، مفتح الأذن، تتطلب الحق حيث كان، لا تأبه للجديد لجدته، ولا تنفر من القديم لقدمه.
إن للشرق مزايا لا يستهان بها، فحكمته مركزة متبلورة، وهو يعتمد على الإلهام أكثر مما يعتمد على العلم والتجربة والحقيقة. وللغرب مزايا لا يستهان بها، فهو يعتمد على الحقيقة والتجربة والعلم، ولكن كانت نتيجة العلم الأوروبي القنبلة الذرية، وهذه القنبلة ينقصها النظر إلى خير الإنسانية لا إلى استعمالها في الغلبة، ولو استكشفت وصحبها النظر إلى خير الإنسانية لاكتشف تحطيم الذرة لا القنبلة الذرية، ولاستخدمت في خير الإنسان، من إزالة سدود وقيود قبل أن تستخدم في القنابل، أما قصد الغلبة فيرمي إلى القنبلة الذرية أكثر مما يرمي إلى خير الإنسانية؛ لأن القنبلة الذرية إنما تستعمل في الفتك لا في النفع.
أي بني!
إنك في زمن الآن قد مسحت فيه كل القيود، واختلط الشرق بالغرب، واختلطت المدنية الشرقية بالمدنية الغربية، وأصبح يمكنك أن تفطر في مصر وتتغدى في فرنسا، وتتعشى في إنجلترا، وهي إحدى الأعاجيب التي ما كنا نحلم بها. وليس هذا بالأمر الهين، فمعناه أن الحضارات تتقابل، ومنافع الناس تتلاقى ... وخير لك أن تقابل عالمك في ثوبه الجديد، فتتأقلم معه وتسايره ولا تقف ضد التيار فيجرفك.
أي بني!
خير ما تواجه به هذا الزمان، سعة دراستك، ووقوفك على حقائق الشرق والغرب، وانتفاعك بما في كل من مزايا. وعيب الشرقيين شعورهم بمركب النقص أمام المدنية الحديثة، فهم يقدرونها فوق قيمتها، ويقدرون أنفسهم أقل من قيمتهم، ولو أنصفوا لزادوا من قيمة أنفسهم وقللوا من قيمة المدنية الغربية.
فالمدنية الحقة إنما تقاس بإسعاد الناس لا بكثرة الاختراع ولا بكثرة التجارب. نعم إن المدنية الغربية أكثر اختراعا وأكثر تجارب، ولكنها ليست أكثر إسعادا للناس، فكثرة حروبها وكثرة تكاليف الحياة عندها وكثرة مطالبها، جعلتها أشق على الحياة وأفقدتها قيمتها في السعادة.
أي بني!
لست أريد أن أبثك رأيي وألزمك به، فأنت حر في اختيار آرائك ووزنها بميزانك، ولكن هذا لا يمنعني من أن أبث إليك بعض آرائي لا عن طريق إلزامك بها، ولكن رغبتي في نفعك جعلتني أعرض عليك كل ما أرى لترى فيه ما ترى.
والسلام عليك ورحمة الله.
9
أي بني!
لقد كتب إلي أخوك مرة من لندن - بعد أن أتم دراسته في كلية الهندسة بجامعة فؤاد، وذهب إلى إنجلترا يعد نفسه لنيل الدكتوراه - يقول: إنه ضمه مجلس مع جماعة من شبان الإنكليز المتخصصين في الهندسة أيضا، وما زال الحديث يتنقل بينهم إلى أن وصلوا إلى عمر الخيام، فأخذ كل يبدي رأيه في شعره وفلسفته في الحياة، وجمال رباعياته، والروح التي تبثها في النفوس، وهل هي روح قوية أو ضعيفة تناسب هذا العصر أو لا تناسبه؟ ونحو ذلك ... وإن أخاك أثناء هذا الحديث كله، لم يستطع أن ينبس بكلمة ولا أن يشارك في هذا الحديث بأي رأي؛ لأنه لم يسمع قبل هذا المجلس عن عمر الخيام، ولم يعرف عنه شيئا، وأنه خجل من نفسه وخجل من ثقافته.
وأنت الآن تدرس الهندسة كأخيك، وأخشى أن تكون أيضا لم تسمع بعمر الخيام وأمثاله ... وربما لم يسمع عنه أيضا كل إخوانك في كلية الهندسة، وكل زملائك في كلية الطب والزراعة والتجارة، وبعبارة أخرى كل المتخصصين في الدراسات العلمية والفنية.
وهذا عيب شنيع ألفت إليه نظرك ونظر زملائك، وأريد أن تتبرأوا منه جميعا. إنكم تظنون أن واجبكم يحتم عليكم دراسة فنكم والتوسع فيه ما أمكن وكفى، فإن كان عليكم واجب ثقافي آخر فقراءة جريدة سياسية أو مجلة خفيفة، تقرأونها عند تنقلكم في الترام أو القطار، أو للتسلية قبل النوم، فإن تم هذا كله ظننتم أنكم أديتم واجبكم نحو عقلكم ... ولا بأس بعد ذلك أن تجهلوا عمر الخيام وأمثال عمر الخيام، وأن تجهلوا ما يجري في العالم من شئون اجتماعية وثقافية عامة أدبية، وفي هذا من الخطأ ما يجب أن تتحرر منه أنت وأمثالك.
إنك إنسان قبل أن تكون مهندسا أو طبيبا أو تاجرا أو نحو ذلك، وإنك إنسان ذو عقل، كما إنك إنسان ذو معدة، وكما يجب عليك تغذية معدتك يجب عليك تغذية عقلك، وليست الهندسة أو الطب أو نحو ذلك، تغذي عقلك إلا في ناحية محدودة ضيقة. إن الهندسة تغذي مجموعة صغيرة من الغدد في المخ، أما سائر الغدد فلا تجد غذاءها في الهندسة ولا الطب ... إنما تجد غذاءها في المعلومات العامة والثقافة العامة؛ ولذلك كثيرا ما تجد مهندسين أو أطباء أو نحوهم، وهم مع معرفتهم الواسعة بمهنتهم عوام أو أشباه عوام ... فيما عدا فنهم الذي تخصصوا فيه. تسمع جدالهم أو آراءهم في غير فنهم، فيضحكك حديثهم كما يضحكك حديث من لم يتثقفوا، وليست الجرائد والمجلات الرخيصة كافية للغذاء الجيد الناضج في شيء، بل إن كثيرا من هذه المجلات الرخيصة تضر أكثر مما تنفع ... عمادها إثارة الغرائز الجنسية بحديثها وقصصها ومناظرها، فهي تعالجها - وتعالجها وحدها - كأن ليس في الوجود شيء غير هذه الغريزة، فأعيذك بالله من أن يكون أفقك في الحياة هذا الأفق الضيق المحدود.
أي بني!
إن أخاك هذا ذكر لي بعد ذلك أنه انتقل من إنجلترا إلى السويد ليتمرن في مصانعها الهندسية، وأنه صحب مهندسا سويديا يحب القراءة في الكتب الأدبية وفي كتب النفس والاجتماع ونحو ذلك، وأنه بمخالطته ومصادقته تعلم منه القراءة ... فكان يرشده إلى الكتب القيمة التي يجب أن يقرأها، ويستحثه أن يغشى المكاتب ويقلب فيها نظره، ويشتري ما يعجبه موضوعه منها، فنمت عنده ملكة القراءة، وأنه على أثر ذلك - بسبب هذا الصديق - انضم إلى جمعية فرضت على أعضائها أن يجتمعوا كل أسبوع مرة، وأن يحضر أحد أعضائها بالتناوب حديثا كل أسبوع حسبما يختار، يقرأ فيه ما استطاع قراءته ثم يعرضه عليهم، وبعد سماعه يتناقشون فيه مناقشة تطول أو تقصر، وانقلبت هذه الجلسة إلى لذة عقلية ممتعة له، حتى كان يترقب تلك الساعة ويتمناها طول الأسبوع، وأنه استفاد منها فائدة كبرى غيرت حياته، وغيرت عقليته. ومن ذلك الحين أصبحت له مكتبة تشمل كتبا من كتب «أدلر» في علم النفس، ومن كتب «موم» في الأدب، ومن كتب «برتراند رسل» في الفلسفة، ونحو ذلك. ثم كان كأنه خلق خلقا آخر. فأناشدك الله أن تعمل مثل هذا.
أي بني!
لست أريد أن أقيم لك البراهين بأكثر من أن تقارن بين شباب قضوا أوقات فراغهم في لعب نرد أو شطرنج أو حديث فارغ في الأندية والمقاهي، وبين شباب أحبوا الكتب والمطالعات، ووضعوا لهم برامج في تثقيف نفوسهم وتوسيع عقولهم. أريد أن تقارن بين هاتين الطائفتين أيهما أكثر لذة ومتعة لأنفسهم، وأيهما أكثر نفعا لأمتهم، وأيهما أجدر بلقب إنسان؟
أي بني!
لا تظن أنك تستطيع أن تكون مهندسا عظيما بقراءتك في الهندسة وحدها، ولا أن يكون زميلك طبيبا عظيما بقراءته في الطب وحده ... فالعقل وحدة، وثقافته في أي موضوع آخر يفيده في الموضوع الذي تخصص فيه. فكم أتت فكرة هندسية عظيمة من قراءة كتاب في الأدب، أو في الاجتماع! وكم أتت فكرة طبية سامية من ثقافة اجتماعية أو فلسفية. ويخيل إلي أن كثيرا من الأطباء ينقصهم المنطق مثلا، فلو تعلموا شيئا من المنطق لاستطاعوا أن يحددوا بالضبط نوع المرض ونوع العلاج، وخاصة في الأمراض التي تتشابه أعراضها، وتتقارب أوصافها؛ فالمنطق وحده هو الذي يستطيع أن يقول - بناء على هذه الأعراض المتشابهة - إن هذا المرض كذا دون كذا، والطبيب الناجح هو الذي منح ملكة منطقية بالفطرة، ولو نميت هذه الملكة الفطرية بشيء من الفلسفة والمنطق التعليمي لكان صاحبها أنبغ وأعظم.
أي بني!
مفتاح هذه المشكلة أن تجتهد أول أمرك أن تكون لك هواية في فرع من فروع الثقافة العامة، كنوع من دراسة التاريخ، أو نوع من الأدب، أو نوع من الدراسة النفسية أو الاجتماعية بجانب دراستك الخاصة ... تبدأ فيه على مهل، وتحبب نفسك فيه رويدا رويدا، كما يفعل من يريد أن يمرن نفسه على هواية الزهور أو جمع أوراق البريد أو الرسم أو نحو ذلك، فإذا صبرت على هذا قليلا قليلا، وجدت أن لذتك تنمو شيئا فشيئا، ولا تزال كذلك حتى تصبح هذه الهواية «كيفا» لا تصبر عنه ولا تستطيع العيش بدونه، ولكنه «كيف» راق سام نبيل نافع. فإذا وصلت إلى هذه الدرجة استسخفت من يضيعون أوقات فراغهم في الحديث التافه واللعب السخيف والقراءة الرخيصة، وأحببت أن تصادق من قويت ثقافته ونضج تفكيره، ونعمت هذه الصداقة.
أليس عجيبا أن تسمع من زملائك أنهم يريدون قتل الوقت بلعب الورق، أو قتل الوقت بالحديث التافه، أو قتل الوقت بالكلام في أعراض الناس أو نحو ذلك ...؟ كأن الوقت عدو يقاتل، مع أنه المادة الخامة للحياة، وهو أجدر بأن يصادق لا أن يقاتل، ولكن كم يجني الإنسان على نفسه بمعاداة أحق شيء بالصداقة!
أي بني!
تصور أنك ستعيش بعد ذلك أربعين أو خمسين عاما، وتصور ماذا تجني في هذه السنين الطوال إذا أنت صرفت جزءا كبيرا منها في تقويم نفسك وتثقيف عقلك ، وتصور كيف تخسر إذا أنت صرفتها أو أكثرها فيما يضر ولا ينفع. بل أنت إذا حسبت ذلك بحساب اللذة الشخصية فحسب، وجدتك تتلذذ أضعافا مضاعفة من لذائذك العقلية أكثر من لذائذك الجسمية.
والسلام عليك ورحمة الله.
رسالة إلى أبي
1
أبي!
قرأت رسائلك إلي، وأشكر لك عنايتك بي، واهتمامك بأمري.
وكل ما أرجوه أن تستمع إلي في رسالتي هذه كما استمعت إليك من قبل في رسائلك وتوجيهاتك، وأن تفتح قلبك لكلماتي كما فتحت قلبي لكلماتك، وكما يجب على الحكام أن يفتحوا قلوبهم لكلمات الشعوب، حتى تتلاشى الدكتاتوريات البغيضة، ويصبح للشعب حرية الكلام والتعبير عن رأيه.
أبي!
إن أشد ما يثيرني ويؤلمني هو نسيانك أنني شاب، فتطالبني بأكثر مما يطيقه الشباب، حين تقيسني بسنك، وحين تفترض أن لي من التجارب والعلم ما لك، ثم تحاول أن تحصي عيوبي، وتغمرني بالنصائح والأوامر والتوجيهات، آملا أن يكون عقلي مثل عقلك، وتدبيري للأمور مثل تدبيرك، ناسيا أن ابنك ما زال شابا، له من الحيوية والنشاط ما يدفعه دائما لمواجهة الحياة ليستمد منها خبرته وتجاربه، وناسيا أن للشباب الحق أن يسير في طريق مخالف للطريق الذي سار فيه آباؤهم من قبل، وأن يجربوا حياة غير الحياة التي خاضها آباؤهم في شبابهم.
لقد قرأت مرة قولا للطفي باشا السيد: «دعوا الشباب ينعم بحريته، دعوه يجرب فتفيده تجاربه، ويخطئ فيعرف أسباب خطئه، أما النصح والإرشاد فهو كثير في الكتب السماوية.»
حقا، إن أهم ما يحتاج إليه الشباب المصري هو أن يترك ليجرب الحياة بنفسه، إنه سيخطئ بلا شك، ولكن هذا الخطأ لن يكون شيئا إذا ما قيس بتلك المصائب الناتجة من فقد الشباب لحريته، وانحلال شخصيته، وفقده الثقة بالنفس.
ليترك الآباء أبناءهم يجربون ويخطئون، فهذا مما يقوي شخصيتهم، ويزيدهم ثقة بأنفسهم، ويجعلهم جديرين بتحمل المسئولية الملقاة على أعناقهم.
إن هذا الضعف في الشخصية، والهرب من تحمل المسئولية، نجده في الطالب الذي يقوم والداه بجميع أعبائه، ويحرمانه من كل تجربة. ونجده في الطالب الذي يقوم أساتذته بتحضير محاضراته وإملائها لها، ويحرمونه من البحث والدراسة، فيصبح هم الجميع أن ينال الطالب شهادته، ويصبح موظفا في الحكومة، ولا يهم مطلقا ما يصاب به من ضعف في الشخصية، وانحلال في الخلق، وغيرهما من الأخلاق التي تنتقل مع الشباب من المدارس والجامعات إلى دور أعمالهم، فيفقدون كل ثقة بأنفسهم، ويهربون من كل مسئولية تلقى على عاتقهم، في الوقت الذي يتعلم فيه الشاب الأوروبي والأمريكي كيف يعتمد على نفسه في البحث والدراسة، وفي مواجهة الحياة العملية ليستمد منها خلاصة تجاربه ومعلوماته.
أبي!
ليس أسهل على الآباء من توجيه النصائح، وإحصاء الأخطاء على أبنائهم، ولكن الحديث في الأخطاء وتوجيه النصائح لا يمكن أن يؤدي إلى تغيير مجد، أو إلى تحسين ظاهر، بل وربما أدى إلى عكس ذلك؛ لأن النفس من طبيعتها تكره النصائح والتوجيه؛ إنما المجدي حقا أن يعلم الآباء كيف تكونت أخطاء أبنائهم، وما هي الظروف التي اضطرتهم إلى أن يخطئوا، ثم يبدأوا في إزاحة هذه الظروف عن طريق الأبناء، وتوفير ظروف أخرى صالحة. وليس هذا بالشيء الهين، ولا بالأمر اليسير، وإنما يحتاج إلى صبر طويل، وتضحيات عديدة من الآباء، حتى يهيئوا جوا ملائما للتربية الصحيحة.
أبي!
لقد دلتنا المشاهدات على أن مسئولية التربية تقع معظمها على عاتق الآباء، فهم أكثر الناس قدرة على إخراج أبناء صالحين، وهم أكثر الناس قدرة على توفير الجو الصالح لتكوين أسرة سعيدة صالحة، فإن عجزوا عن عمل هذا فالذنب ليس ذنب الأبناء، ولا داعي مطلقا لزجرهم وتأنيبهم ونقدهم نقدا جارحا، ولا داعي مطلقا لاستعمال ألفاظ الضجر والشكوى، وإنما الذنب يقع على الآباء الذين فشلوا في تهيئة الظروف الملائمة لإخراج شباب صالح.
إن إخراج الأطفال إلى العالم أمر خطير، يتطلب قوة على تحمل المسئولية، وبعدا عن الأنانية، وعلما بقواعد التربية الصحيحة، وخلقا متينا، وتضحية عظيمة.
إن مصر لا تسعى إلى الإكثار من عدد سكانها مهما تكن النتيجة، وإنما تسعى إلى أن يصل هذا العدد إلى مستوى راق عظيم؛ وعلى ذلك فإن إخراج الأطفال إلى العالم من غير أن يراعي مخرجوهم هل في استطاعتهم تربيتهم تربية صحيحة، وتوفير حياة صالحة لهم، لهو الجهل المطبق، والأنانية المطلقة.
لقد رأينا في الأمم الناهضة كيف استطاع الآباء توفير البيئة الصالحة للتربية الصحيحة والحياة العائلية السعيدة، وكيف استطاع الآباء اتخاذ أبنائهم أصدقاء لهم، يحسون إحساساتهم، ويفكرون فيما يفكرون فيه، يصحبونهم في نزهاتهم ورحلاتهم، ويعودونهم التفكير المستقل، والقول الحر الصادق، فلا يستخدمون سلطتهم في إخضاع الأبناء لهم ولتفكيرهم، ولا يستغلون نفوذهم في إرهاق أبنائهم بما لا يتفق وشبابهم وحيويتهم، ورأينا كيف يسود الحب والألفة بينهم، وكيف نشأت بين الأسرة علاقة روحية جميلة، عمادها التعاون والتضحية والإخاء!
أبي!
لست أرجو إلا أن تدعو الشباب يعيش، ويخط لنفسه الطريق، طريقا لا تكتنفه النصائح والتوجيهات الجافة التي تدفعه في طريقه كالآلة لا يدري من أمره شيئا، وإنما تكتنفه الحياة نفسها، تدفع به يوما إلى يمينه، ويوما إلى يساره ولكنه يستطيع حينئذ أن يعيش كإنسان.
شاهدت مرة فيلما سينمائيا لطيفا عماده أن رب الأسرة لا ينصح مطلقا، وإنما إذا أراد شيئا غير الظروف التي تسببه، فإذا تغيرت الأسباب تغيرت المسببات، وإذا رأى ابنه غضب مرة من المرات بحث عن سبب غضبه، ثم أزال ما يزيل غضبه، وهكذا فكان طبيبا ناجحا.
وقد رأيت في إنجلترا أن القوم يعلمون أبناءهم الاستقلال، بتركهم أبناءهم يعتمدون على أنفسهم في نفقات الجامعات وفي الحياة، فيكونون بذلك مستقلين في أعمالهم، معتمدين على أنفسهم، يربون أنفسهم بأنفسهم، فمنهم موزعو الألبان، وموزعو البريد، وكناسو المدرسة، وما إلى ذلك، فيشبون رجالا يعتمد عليهم لا أطفالا يقادون كما يقاد البعير!
أرجو ألا تفهم من خطابي أني أكره نصحك، أو أمل توجيهاتك، ولكن خير نصح ما كان في تغيير الظروف وتهيئة الجو الملائم، وأرجو أن أجد في خطاباتك القادمة هذه الخطة الناجحة، والرأي لك والسلام.
رسالة إلى ولدي
1
أي بني!
قرأت خطابك وأعجبني منك الدقة في النظام، واستقلالك بنفسك في تصرفك، واستفادتك من كل ما ترى، وأكتب إليك اليوم فأخبرك:
بأنه كان لك قريب من أعيان المنوفية ورث عن أبيه ثروة كبيرة تقدر بنحو ثلاثمائة فدان، ولكنه وقع في عادة سيئة هي لعب القمار، وكان مغفلا فكان يشتريه اللاعبون بعضهم من بعض، وما زال به القمار حتى خسر كل أطيانه، وكان يستجدي أخته فلا تعطيه وتقول له إن ثروتك كانت ضعف ثروتي فأضعتها، ثم كان يستجدي قريبة له ولك فكانت تعطيه الجنيه أو الجنيهين شفقة به حتى مات بائسا!
وكان أحد معارفنا رجل قانون كبيرا وذا عقلية جبارة؛ كان إذا حدثك عن القمار شرحه شرحا وافيا وفلسفه فلسفة دقيقة، ومع ذلك وقع في هذه العادة السيئة، فكان يسهر ليله كله على مائدة القمار حتى أضاع ثروته، ثم اضطر آخر الأمر أن يبيع بيته ويصرف ثمنه في الميسر، ثم اضطر أن يبيع أثاث بيته حتى أضاع كل شيء، ثم مد يده لأقاربه الأغنياء فأعطوه مرة ثم كفوا أيديهم عنه، وركبه الهم الثقيل فانفجر شريان في مخه فمات، ولا يزال بيته يذكرني بمأساته. رحمه الله.
أعرف مصلحا اجتماعيا كبيرا، وعاقلا دقيقا لبقا، هوى اللعب في البورصة فكسب نحو مائة ألف جنيه في لعبة، وابتنى منزلا فخما، وأثثه أثاثا فخما، ثم خسرها في لعبة أيضا، وباع بيته الذي بناه، وأثاث بيته، وركبه الهم أيضا، فالتجأ إلى الخمر يسري بها عن همه. فما زال كذلك حتى وقع في عادة الخمر كما وقع في عادة الميسر، وأفرط في الشرب حتى انفجر مخه فمات!
أي بني!
إني أحذرك أن تكون كأحد هؤلاء تستهويهم المائدة فيلتفون حولها، وللشيطان مداخل في ذلك، فهو يستهوي أولا بالجلوس على المائدة من غير لعب للتفرج على اللاعبين، ثم يستهويك باللعب من غير نقود، ثم يجرك إلى اللعب بالنقود، فإذا أنت مقامر، أعاذك الله.
أي بني!
وأعرف طبيبا كبيرا ماهرا في صناعته، جره أصدقاؤه إلى اللعب فقضى ليله لاعبا يكسب كثيرا ويخسر كثيرا، ثم ضجت زوجته من طول سهره، ومن كثرة خسارته، فطلبت منه الطلاق فطلقها، وسعدت، وندم.
أي بني!
يجب أن تكون لك ميزانية كميزانية الدولة المنظمة تعرف مقدار دخلك وخرجك ، ولا تصرف قرشا أكثر من دخلك.
بل لا يصح أن تصرف كل دخلك، فالليالي من الزمان حبالى، لا تدري، ماذا يحدث، وكم من المال تحتاج، وقاك الله شر السوء.
أي بني!
وكان لنا أستاذ كبير في مدرسة القضاء يتقاضى خمسة وثلاثين جنيها في الشهر، كما يتقاضى مائتي جنيه في السنة من الجامعة المصرية ولكنه كان مسرفا في بيته، يقيم كل أسبوع حفلات استقبال، وحفلات رقص وموسيقى، ويستدين كل شهر ما يحتاج إليه بيته من خبز ولحم ولبن وغير ذلك. فإذا جاء أول الشهر اصطف الدائنون على باب المدرسة حتى يقبض الأستاذ مرتبه ويخرج فيوزع عليهم أكثر مرتبه، ولا يبقي منه إلا ما يكفي ثلاثة أيام، فكان يقول: لعن الله السبعة والعشرين يوما آخر الشهر، وكان يمد يده إلى زملائه في المدرسة فيقترض منهم.
أي بني!
حذار أيضا من أن تكون مثل هذا، بل لا بد أن تعيش عيشة اقتصادية لا إسراف فيها ولا تقتير، وأن تكون معيشتك منظمة وبمقدار ما تكسب، بل أقل مما تكسب: لا حرمان ولا بهرجة، واعلم أن اضطرابك وفساد ميزانيتك شهرا واحدا يجر عليك فساد العمر كله، وإذا فسدت ميزانيتك وأنت لم تتزوج بعد فأولى أن تفسد بعد الزواج، وقاك الله شر الدين.
واعلم أن ليست الأخلاق صدقا وعدلا وشجاعة فقط، بل إن من أهم الأخلاق تنظيم الحياة أيضا، وسيرك في الحياة المالية بنظام وإتقان، ولأن يمد الناس أيديهم إليك يقترضون منك خير من أن تمد يدك تقترض منهم.
وفي الحديث: اليد العليا خير من اليد السفلى.
حفظك الله من هذه الشرور، وجعل يدك العليا دائما، والسلام عليك ورحمة الله.
2
فلنرحم العامل المسكين!
أي بني!
وصلتني رسالتك التي تقص علي فيها ذلك الحادث المؤلم الذي حدث في الورشة التي تعمل فيها، ولشد ما تألمت لوفاة ذلك العامل الكهربائي الذي كان يحاول إيقاف المولد الكهربائي فسرت الكهرباء في جسمه، ثم وقع صريعا على الأرض، ولشد ما آلمني وصفك لهذه الحادثة الأليمة التي حدثت أثناء انهماككم في العمل ... ورجائي ألا يمر عليكم مثل هذا الحادث من غير أن تخرجوا منه بدرس نافع، وعبرة مفيدة لكم ولمن حولكم من الناس.
لقد سرني ما فعلتموه إزاء أسرة الفقيد التي كانت يعولها، وما قدمتموه من مال وخدمات، وسرتني محاولاتكم العديدة في أن تلاشوا كل ما يمكن أن يؤدي إلى أن تتكرر مثل هذه الحادثة ... ولكن هناك درسا آخر قويا يجب ألا يفوتكم حين تنظرون إلى هذا الحادث، وهناك عبرة يجب أن يعيها الجميع.
أي بني!
هذا العامل هو أحد العمال الملايين الذين يعملون في تلك الأجهزة والآلات، ووفاته - بصرف النظر عن المسئول في هذه الحادثة - تدل على تلك المصائب والكوارث والمتاعب التي يلاقيها العمال وأسرهم من جراء القيام بأعمالهم القاسية المتعبة المملة المتكررة، ولست أريد في مثل هذا الموقف أن أعيد تلك الكلمات والجمل التي قيلت في مثل هذه الأحداث من أنه يجب علينا أن نضمن سلامة العامل، وأن نهيئ له أعمالا أقل قسوة وأقل جهدا، إلى آخر ما قيل في مثل هذه المواقف ... ولكنني أريد الآن أن أخاطب فئة أخرى غير فئة العمال ورجال المصانع، أريد أن أخاطب الفئة التي يعمل من أجلها العمال، والتي تفوز في النهاية بهذه الأجهزة التي دفع ثمنها من راحة العامل وأعصابه وحياته! أريد أن أخاطب كل من يركب سيارة وكل من يستخدم تليفونا، أريد أن أقول له إن عليه أن يعلم تمام العلم ويحس كل الإحساس بأن سيارته هذه قد تعذب أثناء صناعتها عمال كثيرون، وأن تليفونه هذا قد هلك وقت عمله صناع عديدون، حتى أخرج له بهذه الصورة التي يراها.
أريد أن يصل هذا الرأي إلى عقولهم حتى يفهموه تمام الفهم، وأن يشعروا به كل الشعور ... حتى إذا ركبوا سياراتهم لم يفعلوا بها ما يفعله كثيرون من الشبان المراهقين هذه الأيام، وحتى إذا ما شاهدوا آلة التليفون أمامهم، وحثتهم أنفسهم أن يقتلوا بها أوقات فراغهم، وأن يقتلوا بها أعصاب الناس كما قتلوا بها قبل ذلك العمال والصناع، كان لهم من ضميرهم ما يردعهم ويوقفهم عند حدودهم.
أي بني!
لقد انتاب البعض شعور قوي في بعض الأوقات بما للآلات والمصانع من أضرار كثيرة على المجتمع ... فرأوا أنها تفقد العامل حريته، وتضيق من نطاق تفكيره، وتفسد إنسانيته، وتجعله جزءا من آلته، فكأنه ترس أو عمود فيها، ولكن سرعان ما رأوا ما تخرجه الآلات من أجهزة تساعد في تقدم الإنسانية ونهضة البشر، ورأوا أن إخراجها إلى الناس قد يوازي ما يقدمه العمال من مجهود وتضحيات، وما يبذلون من تعب ومشقة.
والآن أرجو أن يساعدنا هؤلاء الذين يعمل لهم العمال على الاحتفاظ بهذا الرأي، فلا يحاولون استغلال ما ينتجه هؤلاء الملايين من الصناع المساكين في قتل أوقات فراغهم على حساب أرواح البشر.
أي بني!
نصيحتي لك - استنتاجا من هذا الحادث - أن يمتلئ قلبك رحمة على العامل الفقير الذي يتعرض لهذه الأخطار، وعلى البائس المسكين الذي لا يجد قوت يومه، وعلى المريض المسكين الذي لا يجد صحته، وعلى الجندي المسكين الذي يضحي بحياته في ميادين القتال.
أي بني!
بل إني لأرجو أن تتسع رحمتك فترثي للمجرم الذي وقع في إجرامه، وللغني الذي يبتز أموال الناس ... بل وللعاهرة التي اضطرتها حاجتها إلى أن تبيع جسمها، ولرجال السياسة الذين قست قلوبهم فدفعوا بالملايين من الناس إلى مجزرة القتال! فكل إنسان في الوجود - فقيرا أو غنيا - يستحق الرحمة إذا اتسع أفقك وبعد نظرك.
أي بني!
ارحم ترحم، وليس يضيع حادث اتخذته درسا وانتفعت به، وفقك الله وأصلح حالك، والسلام.
3
كتبت إلي تسألني عن عزمك ترك لندن، بعد حصولك على الدكتوراه، والسفر إلى سويسرا للتمرين العملي، فلا بأس من ذلك، وإن كنت أعتقد أن الوسط الإنجليزي خير من الوسط السويسري لسببين:
الأول أن الوسط الإنجليزي أجد، وأقل لهوا وعبثا.
والثاني أنك كنت تحضر الدكتوراه، وكنت مشغولا برسالتك عن اللهو والعبث، فإذا أنت ذهبت إلى سويسرا بعد الدكتوراه اتسع زمنك ووجدت ما يدعو إلى اللهو والعبث.
ومع ذلك فلا بأس من سفرك بشرط المحافظة على ضبط نفسك، واعتدال الميل إلى اللذائذ وخضوعه لحكم العقل، فكن سيد نفسك ولا تكن عبدا لشهواتك، وضبط النفس يتطلب منك ألا تسرف في الشراهة والدعارة والطمع والغضب والسخط والثرثرة والإدمان، وقاك الله شرها جميعا، ولست أريد أن تكون زاهدا فأمنعك عن كل متعة، وإنما أريد أن تكون معتدلا مقتصدا في اللذائذ، لا تفريط ولا إفراط، ولا دعارة ولا رهبانية، وأحذرك على الخصوص من أشياء ثلاثة، الخمر والنساء والقمار، فهي شر ما يبلى به الإنسان ويفسد عليه حياته، ويضعف روحانيته، ويقل من حريته، ويسوقه إلى أسوأ حال.
وسألتني هل تتزوج من إنجليزية أو لا، فأقول لك إني مع اعتقادي بمزايا الفتاة الأوروبية من نظافة ونظام، وعناية كبرى بشئون الزوج، أرى أكثر من حولي من المتزوجين بأوروبيات غير سعداء؛ لأنهم رأوا أن زوجاتهم الأوروبيات قد ساءهن ما شاهدن من الأمور في مصر فهن ينغصن على أزواجهن إذا رأين فقراء مدقعين بجانب أغنياء مترفين، ويسوءهن أن يرين فوضى وقذارة وما إلى ذلك، وظهر أنهن كن يتصنعن التأكيد بسرورهن من الإقامة في مصر.
ومع كل هذا فسلطان الحب فوق كل سلطان، فأنا أترك لك وزن هذه الأمور، وأترك لك الاختيار بعد أن أبديت رأيي.
وأيضا فالرجل إذا تزوج بأجنبية رأى نفسه مضطرا أن يؤنسها بسينما وتمثيل وهواء طلق ونحو ذلك، فكان ذلك مثار الشقاق المتصل.
ولكن حذار أن تنخدع بما تفعله الفتاة الأوروبية من تصنع وإظهار ود متعمل، وإعجاب بموسيقى تعجبك، وفن يروقك، حتى توقعك في أحبولتها، فميز بين الطبيعي والمصطنع، والسليقي والمفتعل.
كل إخوتك بخير، وجارتك فلانة حملت في الرابع، ولكن تربية الأولاد وكثرة النفقات اضطراها إلى الذهاب لطبيب للتخلص من هذا الحمل البغيض، ولكن ذلك من غير علم أهلها، فأنا أعلم الخطر الشديد الذي تتعرض له الفتاة، ولكن الله سلم فنجت وفرحت بهذه النتيجة، فمن أبى قلة الأولاد فذلك أحسن لتربيتهم وأصح بجسم أمهم، وأكثر تمكينا للآباء من أن يحسنوا تربية أولادهم، ولكني نصحتها بألا تعود إلى مثل هذه العملية الخطرة، فالوقاية بادئ ذي بدء خير من العلاج بعد فوات الأوان.
أرجو أن تخبرني بما استقر عليه رأيك والسلام.
زارني اليوم فنان مصري قال إنه اتخذ من بيته في الضواحي معبدا لفنه، ويتقن ما يرسم في بطء ولا يسأل عن الزمن، ولكن يسأل عن الإتقان، وقال إنه يحتفظ في رسمه بروح مصرية صميمة، ويؤلف بين النزعات المصرية القديمة ومقتضيات الوقت الحاضر، وأنه نجح في عمله وعرض ما صوره على الإنجليز فأعجبوا به، وقالوا إنهم لا يستطيعون تقليد هذا الرسم الشرقي، لأنه وسط بين الفن الشرقي القديم والفن الغربي الحديث، وقالوا إنها تشبه عمل الآلات الميكانيكية إتقانا وجودة، وأوصوه بالاستمرار في العمل وتمنوا له النجاح.
وقال هذا الفنان إنه استطاع أن ينشئ مدرسة على مذهبه التحق بها سبعة عشر فنانا مصريا، وقال إنه يشترط فيمن يتقدم إليه ألا ينظر مطلقا إلى الناحية المادية، ومن أجل ذلك حرم عليهم بيع اللوحات أو المطالبة بترقيات وعلاوات. فحمدت الله أن يكون في مصر ثمانية عشر راهبا فنيا. وأتمنى لك عند رجوعك أن تكون راهبا علميا والسلام.
4
يا بني!
اعتادت أمك وأنت في مصر أن تشملك بعطفها، وتغمرك برحمتها، فتوفر لك كل ما تحتاجه من طعام وشراب ومنام، فاعتمدت عليها في كل ذلك لا على نفسك. ثم هي تسخر الخدم في غسل الصحون وما إلى ذلك، فاعتدت الراحة واستسلمت إلى الترف، وفررت من تحمل أي مسئولية. فلما سافرت إلى لندن شعرت بعيب هذه التربية وأنها أفقدتك الاستقلال، وتعودت عادات جديدة لم تكن لك من قبل، فعهد إليك أن تغسل الصحون لنفسك، وأن تحافظ على مواعيد الأكل في دقة ونحو ذلك، ثم رأيت عادات جديدة لأمة جديدة، فأنصحك أن تتحرى وتدقق التحري في عادات القوم الذين نزلت بينهم، وتختار منها أحسنها، وقد قرأت كتابا في النظم الاجتماعية في إنجلترا لم أذكر مؤلفه اليوم، فإذا ذكرته أرسلته إليك فاقرأه وكرر قراءته، وتعرف عادات القوم واجتهد في أن تعتاد ما هو خير منها، فالإنسان هو العادة، والعادة تكون المخ تكوينا خاصا، ولو أن خبرتنا بالمخ كافية لاستطعنا إذا نحن نظرنا إلى مخ إنسان لم نره من قبل أن نخبره بواسطة تركيبه وحجمه وشكله بصفات كثيرة من صفاته، وأن من خصائص المجموعة العصبية الذي أهمها المخ قابلية التشكل. ومعنى أن الجسم قابل للتشكل أنه إذا اتخذ شكلا جديدا احتفظ به واستمر عليه، كالورقة تثنيها فتحس شيئا من مقاومتها، فإذا ضغطت عليها اتخذت شكلا جديدا واستمرت عليه حتى لا تعود إليه إذا بسطت وهكذا. وكذلك الشأن في الأعصاب فكل عمل وكل فكر يشكلها بشكل خاص، حتى إذا أريد منها أن تعمل العمل ثانية أو تفكر التفكير ثانية كان ذلك أسهل؛ لأن الأعصاب استعدت للعمل وتشكلت به، كراكب الدراجة يجد صعوبة في ركوبها أول الأمر، ويجد صعوبة في حفظ التوازن عليها، فإذا استمر عليها واعتادها كان ذلك من أسهل الأمور، ومن أراد التأليف صعب عليه التفكير أول الأمر، فإذا اعتاده كان ذلك فيما بعد سهلا عليه.
فمن خصائص العادة سهولة العمل المعتاد كتعلم المشي للطفل، فكم يقاسي في سبيل ذلك، وكلما مشى وقع، وقد يستغرق تعلمه المشي شهورا، يتعلم أولا كيف يقف، ثم يتعلم الارتكاز على رجل واحدة عند اتجاه الأخرى إلى الأمام، ثم يتعلم تغيير الارتكاز من رجل إلى رجل حتى إذا اعتاد هذا كله كان يسيرا عليه. وكالكلام فقد تقتضينا الكلمة استعمال عضلات الحلق والشفة واللسان، وقد تقتضينا الكلمة الواحدة استعمال كل هذه العضلات، فإذا اعتدناها وتمرنا عليها سهل علينا النطق، وتكلمنا من غير شعور بصعوبة ما. واعتبر ذلك بنطق الإنجليزي أو الفرنسي بالعين العربية أو الضاد العربية، كيف يجد صعوبة في ذلك عند النطق بهما حتى يعتادوها.
ثم إن العادة توفر الزمن والانتباه، فعند تعلم الشيء قبل اعتياده يكلف انتباها شديدا وزمنا طويلا، كالكتابة عندما نتعلمها قد تحتاج كتابة سطر واحد إلى زمن طويل وانتباه تام واستحضار للفكر كله، فإذا صارت عادة استطاع الإنسان أن يكتب صفحات في زمن كان يكتب فيه سطرا، كما استطاع أن يكتب وفكره مشغول بشيء آخر. وهذا هو الفرق بين صاحب المهنة وغيره ، فصاحب المهنة ألف الشيء وسهل عليه من طول ما اعتاده. واعتبر في ذلك الفرق بين اليد اليمنى واليد اليسرى، فمن طول ما اعتادت اليد اليمنى الكتابة ونحوها سهل عليها العمل وقصر الزمن، ولا كذلك اليسرى. وقد يكون أسهل عليك أن تعتاد عادات القوم من أن تعتاد العادات المصرية، لأن الرأي العام هناك شديد والتيار قوي، فمتى انغمست في التيار جرفك وسرت في سبيله. ثم اعلم أن للعادة قوة كقوة الطبيعة؛ ولذلك يقولون إن العادة طبيعة ثانية، فاصبر على الأمر في أول الأمر إذا وجدت مشقة قبل اعتياده، فأنت إذا اعتدته سهل عليك، ثم إذا اعتدته فحذار أن يجرفك التيار المصري بعد رجوعك فتنسى عادتك وتغيرها إلى أسوأ منها، فالمحافظة على الزمن وضبط المواعيد وصدق القول عادات حسنة في إنجلترا ومصر على السواء، فليست هي محمودة في إنجلترا غير محمودة في مصر، ولكن ربما كلفك المحافظة عليها في مصر مشقة أكثر مما اعتدتها في إنجلترا، لضعف التيار وضعف الرأي العام، ولكن المهارة الكبرى أن تقف في عاداتك التي تعودتها موقف الشجاعة والحزم، ولو كان ذلك ضد التيار وضد الرأي العام، ومن غير ذلك لا يمكن أن تتقدم مصر جيلا عن جيل وزمنا عن زمن، وقد يكلفك ذلك مشقة ولكن كما قلت لك من قبل، إن الصبر عند الصدمة الأولى.
أي بني!
لو قلت إن الإنسان هو مجموعة عادات لم تكن بعيدا عن الصواب، فالعادة هي التي تكسب كل ذي حرفة سحنة خاصة، حتى لتدرك إن كان هذا مدرسا أو طبيبا أو خياطا إذا أنت دققت النظر في شكله. وقوة العادة هي التي تجعل المسنين كأبيك يرفضون الآراء الجديدة برغم ما عند بعضهم من المرونة، وتجعل الشبان أمثالك يسرعون في اعتناقها؛ ولذلك قل أن تجد عندنا شيوعيا شيخا؛ لأن الشيوخ ألفوا من صغرهم آراء معينة اعتادوها، وأما أمثالك من الشبان فلم يألفوا نوعا خاصا من الآراء، فكانوا لذلك على استعداد لقبول ما تقوم البراهين على صحته، ومن أجل هذا قامت النصرانية والإسلام على أكتاف الشبان، أمثال فتية أهل الكهف، وأمثال عمر بن الخطاب وخالد بن الوليد وأمثالهما، لأنه لهم من المرونة ما يجعلهم يقبلون الدعوة الجديدة، بينما كان أمثال دريد بن الصمة الشيخ، والأعشى الشيخ أيضا وأمثالهما لا يألفون الإسلام لأنهم شبوا على غيره. قال جان جاك روسو: «يولد الإنسان ويموت وهو مسترق مستعبد، يشد عليه القماط يوم يولد والكفن يوم يموت.» وهو يقصد بذلك إلى تقيده بالعادات من يوم أن يولد إلى يوم أن يموت، فهو من حين كان في بطن أمه مقيد بعادات موروثة من أبويه، ثم بعادات تعودها مدى الحياة منذ أن كان طفلا إلى أن صار شيخا.
ومن نعم الله عليك وعلى أمثالك أن كانت العادة سهلة التغيير، فيمكنك تغيير العادات السيئة التي ورثتها عن آبائك وبيئتك في مصر إلى عادات أحسن منها وجدتها في إنجلترا؛ فيجب لذلك اتباع القواعد الآتية التي وضعها الأستاذان بين وجيمس وهي: (1)
اعزم عزما قويا لا يشوبه تردد، وضع نفسك في المواضع التي لا تلائم العادة القديمة، وارتبط ارتباطات كثيرة منافية لها، وإذا رأيت أن إعلان عزمك على تركها مما يبعدك عن العودة إليها، فافعل. فمثلا إذا أحببت أن تترك التدخين فتعمد جلوسك مع أصحاب لا يدخنون واعلن بين أصدقائك أنك تركت التدخين، فهذا مما يعينك عليه. (2)
لا تسمح لنفسك بمخالفة العادة الجديدة، إلا بعد أن تتمكن جذورها من نفسك وحياتك، فإنك إذا سمحت لنفسك ولو مرة بالتدخين انفلت العيار، كالبكرة تلف خيطا عليها، فإذا سقطت البكرة ولو مرة واحدة انحل من الخيط ما يحتاج لإعادة طيه إلى عشرات من اللفات؛ ولذلك كان العزم على ترك العادة السيئة مرة واحدة خيرا من تركها بالتدريج، لأن التدريج يشوقك إليها باستمرار. (3)
انتهز أول فرصة لتنفيذ ما عزمت عليه، فإن الصعوبة ليست في العزم، وإنما هي في تنفيذه. (4)
حافظ على قوات المقاومة واحفظها حية في نفسك، وذلك بأن تتبرع كل يوم بعمل صغير لا تقصد منه إلا مخالفة نفسك وآرائك؛ لأن هذا يعينك على مقاومة المصائب إذا حان حينها، وأرجو الله لك التوفيق دائما.
حاشية:
مرضت أمك مرضا شديدا، ألزمها الفراش، وارتفاع الحرارة، وألححت عليها استدعاء الطبيب فلم تقبل بحجتين:
الأولى:
الاعتقاد في القدر، وأن ما كتب على الجبين تراه العيون، وما قدر على الإنسان فلا بد أن يراه.
الثانية:
أن كثيرا من الأطباء قد أخطأوا فأماتوا المريض، ألم تسمع ما فعلوا بفلان إذ عالجوه فمات، وبفلانة إذ عالجوها فماتت أيضا؟ فماذا يغني الأطباء؟ وما زلت أقنعها في الحجتين، فقلت: لها: إن المسلمين الأولين كانوا يعتقدون في ربط الأسباب بالمسببات، والأرض إنما تنبت الزرع بالبذر والغيث، فما لم تزرع وتبذر وتروى لا تنبت شيئا؛ ولذلك حاربوا بكل ما استطاعوا من قوى حتى نجحوا، ثم غلوا في الاعتقاد بالقدر فلم يربطوا الأسباب بمسبباتها فضلوا في عقيدتهم. وأما من الناحية الثانية فإن بجانب الأطباء القليلين الذين أخطأوا، أطباء كثيرين نجحوا، وإني لا أزال أعتقد أن الذين يكذبون لا يزال صدقهم أكثر من كذبهم، والذين يظلمون يعدلون أكثر مما يظلمون، والأطباء الذين يخطئون أقل ممن يصيبون، وهناك أشياء لا يخطئون فيها إلا نادرا، كتحليل البول ومقياس درجة الحرارة، ونحو ذلك. وما زلت بها حتى اقتنعت، فاستدعيت الطبيب، وقد عالجها، فشفيت ولله الحمد.
رسالة إلى ابنتي
1
أي ابنتي!
شاءت الظروف أن ترحلي إلى إنجلترا، وقد كنت في مصر مهدمة الأعصاب شديدة الانفعال، تبكين لأتفه سبب، وتضحكين لأتفه سبب، وترضين وتغضبين وتحزنين وتفرحين، والآن أصبحت في ثلاجة، فتعلمي أن تثلج أعصابك وتبرد عواطفك، ثم إن كل شيء حولك يدعو إلى الهدوء، جو بارد، ونظام دقيق، ومعاملة حسنة.
وقد كنت في مصر تعتمدين على الخدم في قضاء الحوائج من الخارج، وعمل ما يلزم في الداخل، واليوم أنت في إنجلترا لا تجدين خدما فتقضين حوائجك بنفسك، وتغسلين صحونك بنفسك، وتطبخين وتكنسين بنفسك، ولكن ثقي أن هذا يعلمك الاستقلال، ويبعثك على النشاط، ويملأ فراغك ووقتك، وفي ذلك خير عظيم.
أي بنيتي!
ثقي أنك تحملين - شئت أو أبيت - اسم والدك، فعملك لاصق به ، وخيرك وشرك هو مسئول عنه، فاحفظي اسمك واسم والدك، وعلى الإجمال كوني شريفة، فإن لم يكن شرفك لنفسك فاشرفي لأبيك.
نصيحتي لك ألا تكثري من الأولاد، فيكفيك ولد وبنت، أو ابنان أو بنتان، وقد جربت قبلك كثرة الأولاد فإذا هم كما قال الأعرابي: «إن عاشوا كدوا، وإن ماتوا هدوا»، وذلك أعون لك على حسن تربيتهم، وسعة الإنفاق عليهم، وهو أجدى على أعصابك، وأنفع في انفعالاتك؛ ثم لا كثير خير يرجى منهم، ولا حسن معونة ينتظر منهم، فهم إذا تزوجوا فكروا في زوجاتهم قبل أن يفكروا في آبائهم، والمثوبة عند الله.
وسعي عينيك ودققي النظر في عادات القوم، وخذي ما تستحسنين وتجنبي ما تكرهين، ولا يغرنك أنهم إنجليز، فكل قوم لهم خيرهم ولهم شرهم، ولهم محاسنهم ومساويهم، لعل ما شهروا به من المرح وعدم التفكير في المستقبل، وأن لهم يومهم الذي هم فيه، ثم ليكن غد ما يكون من ألطف عوائدهم، وأنت ينقصك الكثير من الفرح وشدة المرح فتخلقي بذلك ما أمكن.
وكم تمنيت أن يكون جونا باردا ليكون لنا مدافئ نتجمع حولها ونسمر بجانبها، فهي تجمع شملنا وتجري دمنا، ويصلح حديثنا، ولكن فقدناها لقلة البرد، ولم نستعض عنها شيئا فحرمنا الخير الكثير.
زرت مرة أوروبا فدققت النظر في رقيهم وانحطاطنا، فقلت: إن رقيهم سببه ميمان، المرأة والمطر؛ فالمرأة برقيها رقت أمتها، وعرفت كيف تربي رجالها ونساءها، والمطر ألطف الجو، وكسا الجبال والأشجار والزرع وخلق الغابات التي حرمناها. فكوني امرأة من هذا القبيل، تربي فتسحن التربية، وتسعد من حولها فتحسن الإسعاد.
أي بنيتي!
كوني مصدر خير لزوجك وبناتك، فيجد حاجاته موفورة، وسعادته مهيأة، ويجدن فيك خير أم لخير بنت.
وتحملي الغربة فإنها بغيضة ثقيلة، ولكن هوني على نفسك، واعلمي أن الغربة إلى قرب، والبعد إلى نهاية، واجتهدي أن تجعلي غربتك أحسن درس وأفيد علم، فترجعي إلى وطنك خيرا مما كنت، وتكوني مصدر إصلاح لمن حولك ولقومك، وأرجو أن أراك قريبا وقد زال حزنك، وجمدت أعصابك، وتحسنت عاداتك، فتحمدي السفر، وتشكري الغربة . وحذار أن تغيري عاداتك الطيبة التي كسبتها، فلا من إقامة أقمنا، ولا من غربة استفدنا، وإنما احتفظي بشخصيتك، وأصلحي ما فسد من قومك، ولا تفسدي ما صلح من نفسك، واجتهدي أن تتركي بلاد القوم، وقد خلفت سيرة حسنة، وذكريات حميدة، ولا تكوني كما قال القائل:
وكنت إذا نزلت بدار قوم
رحلت بخزية وتركت عارا
ولكن اجعلي من حولك يبكون عليك لا يبكون لك، ويشعرون بفراغ لفقدك ووحشة لفرقتك، وفقك الله.
اجتهدي في أن تملئي فراغك بالقراءة النافعة من قصص ممتع وتاريخ مفيد، وإن استطعت أن تستمعي لبعض محاضرات في إحدى الجامعات فافعلي، فلا خير في حياة جافة فارغة ليس فيها غذاء للعقل.
رسالة إلى ولدي
1
أي بني!
احرص على أن يكون لك مثل أعلى تنشده، وترمي إليه في حياتك، وليكن هذا المثل الأعلى مشتقا من شخصية عظيمة مصلحة تتفق ونفسك ومزاجك، فإني أعرف فيك الجد، والإفراط في عزة النفس، وقلة المجاملة، فليكن مثلك مناسبا لهذا كله، إن تحديدك للمثل الأعلى يحدد سيرك، ويعين ما يقرب منها وما يبعد، فأنت إذا قصدت إلى الهرم أمكنك أن تعرف منه الطريق المقرب والطريق المبعد، أما إذا أنت سرت سبهللا ولم تحدد لك غاية، تخبطت في السير ولم تعرف ما يحسن وما لا يحسن.
والمثل الأعلى كثير التأثير، مريح للنفس من عناء التفكير في كل لحظة، فهو دائم الشخوص أمام الإنسان يجذبه نحوه، ويدعوه لأن يحققه. وإن أعمال الإنسان وطريقة سلوكه تدل على أن له مثلا أو ليس له، وإذا كان، فماذا هو؟ وكل ما جرى من إصلاح للأفراد والأمم وتأليف لليوتوبيا أو المدينة الفاضلة، فمنشؤه المثل الأعلى، وبدونه يكون الإنسان كالحيوان يعيش - دائما - على وتيرة واحدة لا تتحسن، وكل ما أستطيع أن أقوله لك إنه يحسن أن يكون مثلك وطنيا مصلحا، وقد شاهدت ولله الحمد أمثلة صالحة في مصر، ثم شاهدت أمثلة خيرا منها في إنجلترا، وستشاهد أمثلة أخرى في سويسرا والسويد، فيمكنك أن تشتق منها جميعا المثل الأعلى الذي يصلح لك ويصلح لبلدك وأمتك ، فكثيرا ما يصلح الشيء لبلد ولا يصلح لآخر، وكثيرا ما يصلح لزمن ولا يصلح لآخر، وقد يصلح مع مزاج ولا يصلح مع آخر. فليكن لك في اختيار المثل عينان: عين تنظر بها إلى أوروبا، وعين تنظر بها إلى مصر، ثم تختار المثل بالعينين، ولتكن مرنا في اختيار المثل فكونه مما شاهدته في مصر وإنجلترا، ثم عدله بما ستشاهده في سويسرا، ثم عدله أيضا بما ستشاهده في السويد، وهكذا. ولا تحتقر شيئا تقع عليه عينك، فقد تستفيد الكثير من الأمر الصغير.
حاشية:
يؤسفني أن أذكر لك أن فلانا جارنا قد مات فجأة، وكان كثير السؤال عني وعن صحتي، ثم مات الصحيح وبقي المريض، وقد حزنت عليه كثيرا لأنه كان جادا في الحياة أكبر جد، ناجحا أكبر نجاح، وقد كان محظوظا في ماله، فكل شيء يشتريه تتضاعف أثمانه، ومر مرة في شارع من شوارع الإسكندرية فرأى في المحكمة المختلطة إعلانا عن قطعة أرض فاشتراها من غير أن يراها، فإذا هي جنة، وإذا ثمنها أضعف مما اشترى. واشترى أيضا ورقة يانصيب فربحت، واشترى أيضا بيتا في حلوان بأرخص ثمن؛ لأن الناس أشاعوا عنه أن به عفاريت.
ومع غناه وثروته التي تقدر بنحو ربع مليون كان شحيحا على نفسه، فهو يذهب إلى عزبه إما بعربة الحكومة أو في شركة كافوري، وتحت إبطه رغيف وقطعة جبن يأكلهما إذا جاع، ولا يحدث نفسه بركوب جيد، أو أكل فاخر.
وهو مع إيمانه بالعلم مرض بالسكر، فلم يسمع للأطباء بالحمية والاستقرار، فمات بعد أيام رحمه الله.
وقاك الله شر المرض، وشر الشح، وشر الجهل مع العلم، أو ضعف الإرادة مع قوة العقل، والسلام.
2
أي بني!
قرأت خطابك الذي تنكر فيه علي كثرة نصحي، ولا زلت أعتقد أني محق كل الحق، فكما يتأثر المرء بالبيئة التي حوله كما ذكرت، يتأثر بالنصيحة أيضا؛ ولذلك لا أزال أنصح لك، قبلت أو كرهت، وأنت حر في قبول النصيحة أو كرهها، وأحيانا تجد النصيحة محلها فتعمل عملها، ولولا ذلك ما نصح القرآن ولا النبي المؤمنين، فأمرهم بالعدل والصدق والعفة وما إلى ذلك. وقد أذكرني ذلك ما كنت أقرأه بالأمس في رسالة خطية لابن خلدون في التصوف، فقد عقد فصلا في الحوار بين رجل يرى ألا فائدة من الشيخ، بل يكفي القراءة في الكتب، وبين شيخ يرى الاعتماد على المشايخ، وحجة الأولين أن كل شيء موجود في كتب التصوف، وحجة الآخرين أن الشيخ الحقيق بلقب الشيخ يستطيع أن يدرك نفسية السامع ومزالقه فيوجهه الوجهة الصالحة التي قد تخفى على المريد نفسه، فما ينفع لأحد قد لا ينفع الآخر بل يضره؛ ولذلك لما كان كل يسأل الشيخ الماهر عن أحسن خلق كان يجيب إجابات مختلفة: أحيانا الصدق، وأحيانا العدل، وأحيانا غير ذلك، باعتبار السائل.
ولأمر ما اتفقت الأمم وحكماؤها على العناية بالنصائح، فالحكيم قس بن ساعدة له نصيحته المشكورة، ولقمان الحكيم نصح ابنه كما هو مذكور في القرآن، وملوك الفرس نصحوا الناس بنصائحهم المسماة «جويدان خرد». ولست أذهب بعيدا، ففي القصص العربي أن عبد الله بن الزبير ومصعب بن الزبير وأبا جعفر المنصور تذكروا أبياتا من الشعر، فتشجعوا ورموا بأنفسهم في حومة القتال بعد إنشادها. وأنا نفسي قد جربت وقد قرأت نصائح من وصايا الإمام علي بن أبي طالب، ومن كتاب مرشد المتعلم، ومن كتاب سر النجاح والأخلاق لسمايلز، فوقفت عند بعض النصائح لهم كان لها الأثر الكبير في نفسي. فقولك إن البيئة كل شيء مغالطة، بل هي شيء من أشياء، بل إن النصيحة التي أذكرها لك هي نفسها بيئة من البيئات؛ ولذلك فلن أعتمد على قولك، وسوف أستمر في النصيحة ما دمت ابنا وما دمت أبا، ولك الخيار في أن تقبل ما تقبل وترفض ما ترفض.
حاشية 1:
بلغني أن فلانا جارنا صديقك الذي تعرفه قد تورط في صحبة أصدقاء، كانوا أصدقاء سوء، وما زالوا به حتى علموه الكيوف الضارة، فأخذ مأخذهم وسار على منوالهم، وترك دروسه، وتعود السهر معهم كل ليلة إلى منتصف الليل، فلما تيقظ أبوه لذلك نصحه بكل الوسائل فلم ينجح، ثم استعاض بأصدقائه أصدقاء آخرين خيرين خلقهم خلقا، فساروا معه سيرا حسنا، وأرشدوه إلى طريق الخير، حتى استقام والتفت إلى دروسه؛ فإن عددت هذا إصلاحا للبيئة فعلت، وإن عددته نصيحة جاءت على نمط مقبول وفي شكل مقبول فعلت.
حاشية 2:
وبلغني أن فلانا الذي تعرفه أيضا قد سقط في امتحانه بسبب ما تورط في أصدقائه، ثم عن طريق المصادفة شهد رواية سينمائية لفت نظره منها جملة خلقية قوية، فأتى وكتبها بخطه، وعلقها في حجرة نومه، فكان يقرؤها إذا نام وإذا صحا من نومه حتى استقام أمره. أفلا تعد هذه نصيحة من النصائح القوية الفعالة؟
3
أي بني!
سادت عند أمثالك من الشبان فكرة خاطئة، وهي شدة المطالبة بالحقوق، من غير التفات إلى أداء الواجبات مع تلازمها، فهما معا ككفة الميزان، إن رجحت إحداهما خفت الأخرى، وهم يلجأون إلى كل الوسائل للمطالبة بحقوقهم: من إضراب، إلى اعتصام، إلى تخريب، إلى غير ذلك، ولا نسمع منهم أبدا شيئا عن فكرة أداء الواجب! فحذار من الوقوع في هذا الخطأ. فعلى كل إنسان أن يؤدي واجبه دائما كما يطالب بحقوقه. والإنسان في هذه الحياة لا يعيش لنفسه فحسب وإنما يعيش له وللناس، ولسعادته ولسعادة الناس. وأداء الواجب، يؤدي إلى تحقيق السعادة: فالطالب الذي يؤدي واجبه لأسرته يسعدها، والأغنياء بتأديتهم ما عليهم من بناء للمستشفيات، وتبرع للخيرات، يزيدون في راحة الناس ورفاهيتهم. وعلى العكس من ذلك السارقون والسكيرون، فإنهم بإهمالهم الواجب عليهم وعدم إطاعتهم قوانين البلاد، يزيدون في شقاء الناس وتعاستهم، ومقياس رقي الأمة إنما هو في أداء أفرادها ما عليهم من واجبات. فالذي يتقي الله في صناعته يسعد الناس بإتقانه، ولا يبقى العالم ويرقى إلا بأداء الواجب. ولو أن مجتمعا قصر في أداء كل واجباته لفني في الحال. والأمة المتأخرة إنما بقيت لأن أفرادها قاموا بأداء أكثر الواجبات وتأخرت بالقسم الذي لم يؤد. ويجب أن يؤدي الواجب لأنه واجب، لا طمعا في ربح ولا هربا من خسارة، إنما نؤديه راحة لوجداننا. والذين يؤدون واجبهم رغبة أو رهبة ، إنما هم تجار يبيعون اليوم ما يقبضون ثمنه غدا. ومثلنا الأعلى أن نتلذذ من أداء الواجب كما نتلذذ من خير ينالنا وشر يزول عنا، ويجب أن ننشد مع أبي العلاء قوله:
فلا هطلت علي ولا بأرضي
سحائب ليس تنتظم البلادا
وتقول كما قول رسول الله
صلى الله عليه وسلم
في صهيب:
نعم العبد صهيب، لو لم يخف الله لم يعصه.
ونقول مع البارودي:
أدعو إلى الدار بالسقيا وبي ظمأ
وأحق بالري لكني أخو كرم
وكثيرا ما يكلفنا القيام بأداء الواجب مشقات كثيرة ينبغي أن نتحملها، أو يتطلب منا تضحية يلزمنا تقديمها؛ فالقاضي العادل قد يضطر إلى الحكم على صديقه أو قريبه فيؤلمه ذلك، وقد يحمله حب العدل على إغضاب أفراد عظام أو هيئات مختلفة، فيعرض بذلك نفسه لشتى الآلام، ومع ذلك يجب أن يتحملها بابتسام. بل أكثر من ذلك، الجندي، فقد يقف في ميدان القتال موقفا قد يعرض فيه نفسه للموت، فيفعل ذلك على طيب خاطر فداء لأمته. ورئيس السفينة إذا عطبت يجب أن يبقى فيها حتى ينتقل ركابها إلى قوارب النجاة، ثم يكون آخر من ينزل، وكثيرا ما يكون إعلان الإنسان رأيه وتمسكه بمبدئه قد يبعده عن منصب ويحرمه من فائدة، ومع ذلك يجب أن يتحمل التضحية مهما آلمت عن رضا وارتياح، ويجب أن يعد مكافأة الضمير فوق كل مكافأة، ولكن يجب أن ننبه هنا إلى أمرين خطيرين، كثيرا ما يخطئ الناس فيهما:
أولهما: إن بعض الناس يفهم أن التضحية واجبة لذاتها، مع أنها لا تستحب إلا حين يطلبها الواجب. فما يفعله بعض زهاد الهنود من إيلامهم أنفسهم ولو من غير مقابل عمل لا يستحب. وكذلك من يحرم نفسه من التمتع بلذات الحياة، لا لغرض يرتجى من ورائه إلا المثوبة عمل خاطئ، وقد نهى رسول الله
صلى الله عليه وسلم
من نذر أن يصوم قائما في الشمس، فأمره بالصيام ونهاه عن القيام في الشمس، لأنه تعذيب لا مسوغ له. ومن الخطأ ما يدور على ألسنة الناس من قولهم الثواب على قدر المشقة، فهو ليس صحيحا إطلاقا، إنما يصح حين تتحمل المشقة لعمل خير لا يمكن أن ينال إلا بهذه المشقة.
والثاني، أن ليس لأداء أي واجب تبذل أية تضحية، بل لا بد من الموازنة بين الواجب والتضحية، فمن تألم من أسنانه مثلا لا يصح أن يفر من الألم بتضحيته بحياته، ولكن يصح أن يقلم أشجاره ليزيد في إثمارها. كالطبيب يهجر نومه ويتعرض للتعب لإنقاذ مريض، والعالم يهجر راحته من أجل إخراج كتاب أو فكرة أو استكشاف ينفع الناس، ومتى اقتنع الإنسان بخيرية التضحية بعد هذه الموازنة وجبت عليه، إلا كان الفرار منها جبن، وكلما عظم الواجب عظمت التضحية، كالذي نشاهده في الحروب الدفاعية: نبذل الكثير من الأرواح في المحافظة على سلامة الوطن.
وسيرة عظماء الرجال مملوءة بالشواهد على هذه التضحية، فلا نكاد نجد عظيما لم يضح كثيرا، والله يهديك ويوفقك، فهذه التضحية هي التي تكونك كما كونت من قبلك. واحذر أن تستسلم للنعيم، وتخلد للراحة، فمن استسلم للنعيم وأخلد للراحة لم يرج منه خير، ورحم الله شوقي بك إذ يقول في وصف زملائك:
شباب قنع لا خير فيهم
وبورك في الشباب الطامحينا
2
أي بني، أقتصر في كتابي هذا على نصائحك في التعليم الجامعي. ليكن أهم ما تصبو إليه حب الحقيقة فلا تقدس القديم لقدمه ولا الجديد لجدته، واطلب الحقيقة لذاتها، صادفت القديم أو الجديد، أعجب الناس بك أو كرهوك ومقتوك، وكن ذا شعور علمي دقيق، فإن الطبيعة لا توحي بحقائقها إلا لمن دق حسه وتنبه عقله، وقد أعجبني ما ذكرت من أنهم في الجامعة يعلمونك العلم ويعلمونك بجانبه الصبر، فالصبر حقيقة هو مفتاح العلم، فلا تمل منه ولا تستكبر أي صبر يوصل إلى أية حقيقة.
عود نفسك النظام في العمل، والدقة فيه، وحسن الترتيب، ولأقص عليك شيئا من تجاربي في هذا الباب.
فقد بدأت حياتي في ترجمة كتاب مبادئ الفلسفة الذي تعرفه، فكنت أفهم معنى الجملة وأبحث لها عن ترجمة عربية، حتى إذا عثرت على الجملة أجلتها في نفسي ، وقد أجيلها على لساني لأعلم مبلغ دقتها في أداء المعنى، وهل يحسن وقعها على القارئ والسامع، وقد أضطر في سبيل ذلك إلى رفضها بتاتا أو تغييرها أو إحلال لفظة محل لفظة فيها، فلما بدأت أؤلف فجر الإسلام كنت أعمد إلى مظان البحث في الكتب التي أظن أنها تتعرض للموضوع الذي أريده، فإذا قرأتها أعملت فكري فيها ثم كتبت الموضوع؛ فلما ترقيت بعض الشيء في ضحى الإسلام عمدت إلى طريقة أنظم، وهي أني فكرت في موضوع الكتاب وقسمته إلى فصول، وأعددت لكل فصل «دوسيها» وقرأت أمهات الكتب، وكلما عثرت على فكرة قيمة لخصتها ووضعت التلخيص في «الدوسيه» المناسب وأشرت إلى الصحيفة والكتاب. فلما فرغت من ذلك بدأت في التأليف فاستخرجت «دوسيه» كل موضوع وقرأت ما فيه من وريقات ورتبتها وهضمتها ثم أخرجتها تأليفا، وانتقلت: بعد ذلك إلى الذي يليه ثم الذي يليه وهكذا إلى نهاية الكتاب، ووجدت أن مثل هذه الطريقة أنظم وأفضل، فاعمد إلى مثل هذه الطريقة في بحثك.
ولخير لك أن تختار نقطة صغيرة تلقي عليها أضواء كثيرة حتى تتجلى للقارئ، من أن تعمد إلى مسألة كبيرة تلقي عليها أضواء قليلة تتشعع فيها نفسك ويتشعب فيها عقلك.
وأعود فأقول لك الصبر الصبر فيما تلجلج في صدرك، فإذا شككت في أمر فابحث عنه في كل مظانه واستفت أساتذتك فيه، وإذا كان لك جهاز أو أجهزة فجربها عمليا عليها لتعرف مقدار صدقها من كذبها، ولا تكتب إلا وأنت واثق مما تقول، مالئ يدك من البرهان عليه والحجة المقنعة لك ولمن يناقشك.
إن كثيرا من إخوانك لا يرغبون في البحث للبحث، ولكن يرغبون في البحث للشهادة، فخالفهم واطلب البحث للبحث، والفرق بينك وبينهم إذا أنهم إذا حصلوا على الشهادة ناموا وأنت إذا حصلت على الشهادة داومت بحثك وعشت طول عمرك باحثا منقبا متعلما.
إني أعلم أن استعدادك للنظريات كبير، واستعدادك للأعمال اليدوية من رسم وتصوير ونحو ذلك صغير فلا يغرينك حسن استعدادك للنظريات أن تمعن فيها حبا لها واستسهالا لشأنها فتهمل الجانب الآخر، بل الأمر بالعكس، لا تعمد إلى الملكة القوية فتزيد في قوتها، وإلى الملكة الضعيفة فتهملها، بل اعمد إلى موضع نقصك فقوه، وليس يمكن مهندسا أن يكون نظريا محضا من غير إجادة رسم، فخير لك أن تكمل نقصك وتقوي ملكاتك جميعا، من أن تقوي ملكة على حساب أخرى، كالذي يقوي إحدى يديه فيضعف الأخرى وهكذا.
ثم لا تكن مغرورا تعتقد أنك على حق مطلق، وأن غيرك إن خالفك على باطل مطلق، بل وسع صدرك فاجعل حقك يحتمل الخطأ وباطل غيرك يحتمل الصواب، وقلما يعرف أحد الحق كل الحق ويقع أخوه في الباطل كل الباطل، فحقك مشوب بباطل كثير، وباطل غيرك مشوب بحق كثير؛ فاصغ إلى رأيه وأعمل عقلك فيه، واستخرج منه خير ما فيه، وإن أداك ذلك إلى أن تعدل عن رأيك إلى رأيه فافعل، ولا تشمئز من ذلك فالحق يعلو ولا يعلى عليه. إنك إن فعلت ذلك نجحت وأتتك أعراض الدنيا بعد ذلك تبعا، والصوفية يقولون في أمثالهم: صاحب الخصوصية لا بد أن يظهر يوما ما، فلا تتعجل المكافأة، ولا تغضب من عرض يفوتك، فتلذذك من الحقيقة والبحث عنها محسوب عليك، وهي أكبر لذة في الحياة، أتتك بعدها أعراض الدنيا أم لم تأت.
وكنت أعرف صديقا، رحمه الله، ملأه في عيني صغر الدنيا في عينه، كان وطنيا مخلصا ومحبا للعلم مخلصا، يفرغ من عمله فيكمل نفسه بحضور الدروس على الشيخ محمد عبده رحمه الله، ثم على الشيخ محمد رشيد رضا وغيرهما من العلماء، ويستفهم عما لا يفهم، ويعلم من يجهل، وضم إلى العلم الوطنية، وكانت وطنيته أرفع من أن تنغمس في حزب فكان فوق الأحزاب. وكان يعمل أكثر مما يقول، ويتبع قول المرحوم قاسم بك أمين: «إن الوطنية الصادقة تعمل في صمت». وجد في تربية زوجه وأولاده على مبادئه، فكان يصلي بهم الفجر حاضرا، ويلزمهم الصدق في كل ما يقولون والعدل في كل ما يفعلون، سواء عليه في ذلك بنته أو ابنه، فعوضه الله عن مجهوده بصلاح أبنائه وبناته ونجاحهم جميعا في الحياة. كان إذا عذب أو أهين احتمل ذلك في ثبات، ومن الأسف أن استقامته أغضبت كثيرا من إخوانه ورؤسائه فكانوا ينقلونه من القاهرة إلى أقصى الصعيد، ولكنه مع ذلك يحتمل ويحتمل، ويصلح ما فسد في أي مكان رحل إليه، فيزيدهم ذلك غيظا وهو لا يبالي، حتى مات، رحمه الله، راضيا عن نفسه مطيعا ربه، ومثل ذلك قليل. فاعمل لتكون مثله، وفقك الله وأيدك وأمدك بروح منه والسلام.
حاشية:
أتذكر فلانا صديقك؟ إنه كان يعمل في كلية الهندسة في مصر فأدار آلة ميكانيكية كبيرة ولم يحتط الاحتياط الكافي، ولم يلتفت إلى الآلة الالتفات الضروري، فمس سلكا كهربائيا فيها فصعق ومات، رحمه الله، وإني لا أقص عليك هذه القصة لأزعجك ولكن لأحذرك، فاتق شر ما عمل، وأعط كل عقلك وانتباهك إلى العمل الذي تعمله، وكن جادا كل الجد في أوقات الجد، ولا بأس أن تكون هازلا بعد في أوقات الهزل. وقد ذكرت لي في إحدى خطاباتك أن آلة مكهربة كاد يمسها تلميذك والعامل عندك، وهو إذا مسها صعق لكثرة ما فيها من شحنة كهربائية، فصرخت في وجهه صرخة قوية، وظلت أسبوعا لا تجد أعصابك، فحمدت لك ذلك، وأردت أن أنبهك على غلطة زميلك، والسلام عليك من والد يريد الخير لك دائما.
صفحة غير معروفة