لقاء العشر الأواخر بالمسجد الحرام (١٧ - ١٨)
إخلاص الوداد في صدق الميعاد
ويليه
ما يفعله الأطباء والداعون بدفع شر الطاعون
تأليف
العلامة مرعي بن يوسف الكرمي المقدسي الحنبلي توفي سنة ١٠٣٣ هـ رحمه الله تعالى
تقديم وتعليق
خالد بن العربي مدرك
ساهم بطبعه بعض أهل الخير من الحرمين الشريفين ومحبيهم
دار البشائر الإسلامية
صفحة غير معروفة
جَميعُ الحُقُوقِ مَحْفُوظَةٌ
الطّبْعَةُ الأولى
١٤٢١ هـ - ٢٠٠٠ م
دَارُ البَشَائِر الإسْلَامِيَّة للطباعة والنشر والتوزيع
هاتف: ٧٠٢٨٥٧ - فاكس: ٧٠٤٩٦٣/ ٠٠٩٦١١
بيروت - لبنان ص. ب: ٥٩٥٥/ ١٤
e-mail: [email protected]
1 / 2
بسم الله الرحمن الرحيم
المقدمة
الحمد لله ولي الصالحين، وخالق الخلق أجمعين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين، وعلى آله وصحبه الطاهرين، وصحابته الطيبين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد، فقد تَشَرَّفْتُ بدعوة الأخ الوَدُود المُتَوَدِّد، بحَّاثة الكويت الشيخ محمد بن ناصر العجمي إلى المشاركة بقراءة بعض الرسائل المخطوطة بفِنَاءِ صَحْنِ المسجد الحرام المبارك؛ حيث اقترح بعض الأفاضل وفي مُقَدمتهم الشيخ الكريم، والباحث المتفنِّن، مُتَعَدِّد المواهب نظام محمد صالح يعقوبي البحريني، والأستاذ المجتهد المتقن الشيخ رمزي دمشقية، صاحب دار البشائر الإِسلامية، منذ فترة، قراءة بعض المخطوطات اللطيفة الحجم والمحتوى في العشر الأواخر من رمضان بالمسجد الحرام، فاجتمع لهم بذلك شَرَفُ الزَّمَان، والمَكَان، والقَدْر.
وقد أَلْفَيْتُهَا طَرِيقَةَ حَسَنَة، وَإِحْيَاء لِعَالَةِ لِلعُلَمَاءِ مَنْسِيّة؛ إذ حرص عليها عُلَمَاء من المغرب والمشرق قديمًا، فيستحضرون الكتب والأجزاء
1 / 3
لقراءتها داخل المسجد الحرام لبركة المكان؛ وذلك إما على وجه المذاكرة مع الأقران، أو الاستجازة من الشيوخ والمسندين.
فهذا الحافظ ابن خَيْر الإِشبيلي (٥٧٥ هـ) يذكر أنه قرأ كتاب
"التَّلْخِيص في القِرَاءَات الثمَان عَن القُرَّاء الثَّمَانِيَة المَشْهُورِين" لأبي معشر الطبري على الشيخ أبي جعفر أحمد بن شعبان الكلبي المكي بقراءته على شيخه بالحرم المكي الشريف (١).
والحافظ المسند التُّجيبي، قرأ كتاب صحيح الإِمام البخاري على الشيخين فخر الدِّين أبي عمرو التَّوْزَري المالكي، وظهير الدِّين أبي الفداء المصري الشافعي داخل الحرم الشريف تجاه الكعبة المعظَّمة، وسمع جزءًا فيه حديث الرحمة المسلسل بشرطه على شمس الدِّين أبي عبد الله الجَيَّاني الأندلسي بالحرم الشريف تجاه الكعبة المشرَّفة بإزاء باب العمرة، وغيرها من الكتب والأجزاء التي تحصَّلت له بقراءته وسماعه من الشيوخ داخل الحرم المكي الشريف (٢).
ومن علماء المشرق الحافظ المحدِّث المتقن شمس الدِّين السخاوي (٩٠٢ هـ)، الذي تحصل له من ذلك الكثير والكثير (٣).
وقد اخترت رسالتين لطيفتين للفقيه المتقن مَرْعِي الكَرمِي الحنبلي (١٠٣٣ هـ)، هما: "إِخْلاَصُ الوِدَادِ في صِدْقِ المِيعَاد"، ورسالة: "مَا يَفْعَلُه الأَطِبَّاءُ وَالدَّاعُونَ بِدَفْعِ شَرّ الطَّاعُون".
_________
(١) فهرسة ابن خير ص ٣٠.
(٢) برنامج التجيبي ص ٦٨، ١٧١، ٢٣٩.
(٣) راجع لذلك كتابه الحافل في الترجمة لنفسه: "إِرْشَادُ الْغَاوِي بَل إِسْعَادُ الطَالِبِ وَالرَّاوِي بِتَرْجَمَةِ السَّخَاوي" (مخطوط ل/ ٢٧ أوغيرها).
1 / 4
رسالة "إِخْلاَصُ الوِدَادِ في صِدْقِ المِيعَاد"
صدْقُ الوَعْدِ مِنَ الخِصَالِ الكريمة الفاضلة، التي اتَّصَفَ بها العرب في جاهليتهم قبل البعثة المحمدية، فمدحوا من يَصْدُقُ في وَعْدِه ويُوفي به، وذَمُّوا مَنْ يُخْلِفُه ولا يَحرِصُ عليه، يُصَدِّقُهم في ذلك قول عامر بن الطفيل:
وَإِنِّي وَإِنْ أَوْعَدْتُهُ أَوْ وَعَدْتُه ... لأخْلِفُ إِيْعَادِي وَأُنْجِزُ مَوْعِدِي
ومع مجيء الإِسلام أكَّدت النصوص الشرعية على الوفاء بالوعد وإنجازه، وجعله من كرائم الأخلاق التي يتَّصف بها المؤمنون، وفي مقابل ذلك -والعياذ بالله- الكذب في الوعد، وهو من الرَّذَائِل الخُلُقِية التي يَتَرَفَّع عنها المؤمن من عباد الله.
وقد اهتمَّ الفقهاء بالكلام على حُكْمِ الوَفَاء بالوعد لما يترتب عليه من أحكام فقهية وقضائية؛ فَتَنَاوَلُوها ضمن كتاب "الأَيمان والنذور"، ولم يُغفِل الحديث عنها علماء العقائد من أهل السنَّة عند التفصيل في قضية إنفاذ وعد الله ووعيده، والرد على مذهب المعتزلة في ذلك.
ومن العلماء الذين سَبَقُوا الشيخ مَرْعِي الكَرْمِي إلى التصنيف في
1 / 5
الوفاء بالوعد: الحافظُ المُتقِن شَمسُ الدِّين السخاوي (٩٠٢ هـ) في كتابه المَوْسُوم: "الْتِمَاسُ السَّعْدِ في الوَفَاءِ بِالْوَعْدِ" (١)، وهو من الكتب التي صنَّفها لأجل السلطان الأشرف قَايِتْبَاي (٢)، وقد أجاد السخاوي فيه وأفاد في عرض الأحاديث والآثار الواردة في الأمر بالوفاء بالوعد، والكلام على درجتها، ثم تطرَّق إلى بعض الفوائد والأحكام.
أما رسالة الشيخ الفقيه مرعي الكرمي "إِخلاَصُ الوِدَاد" فقد جمع فيها فَوَائِد، وَاصْطَادَ لها فَرَائِد، وبناها على ضوء قوله تعالى: ﴿وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا (٥٤)﴾ [مريم: ٥٤].
وساق فيها كلام جماعة من المفسِّرين عل الآية الكريمة في كون الوفاء بالوعد من خُلُق الأنبياء، ومن صفات المؤمنين الأصفياء، وانتقل إلى وفاء إسماعيل ﵇ بوعده، وصبره على الذبح، كما ساق بعض الأحاديث والآثار في صدق الوعد، والوفاء بالعهد، ثم ختمها بالكلام على حكم الوعد الفقهي، وهل يلزم من حيث الحكم القضائي؛ بحيث يلزم القاضي من أخلف وعده بأدائه والالتزام به؟
تناول كل ذلك نَاهِجًا فيه منهج الاختصار والإِيجاز، البعيد عن الإِخلال والانحياز.
_________
(١) مطبوع بتحقيق د. عبد الله الخميس، عن مكتبة العبيكان.
(٢) أَلَّفَ الحافظ السخاوي مجموعة من الكتب والمصنفات بطلب من السلطان قايتباي حاكم مصر (٨٧٣ - ٩٠١ هـ) وأهداها له، ويعتبر بعضها من أجود ما صُنِّف في بابه، وقد تكلَّمت عنها في دراسة أنجزتها عن تراث الحافظ السخاوي.
1 / 6
رسالة "مَا يَفْعَلُه الأَطِبَّاءُ وَالدَّاعُونَ بِدَفْعِ شَرِّ الطَّاعُون"
عَرَّف المُتَقَدِّمُون الطَّاعُونَ بِتَعَارِيف مختلفة، بحسب ما تَوَفَّر لهم من مَعْلُومَاتٍ عَن هذا الوَبَاء في ذلك الوقت، وقد حَدَّهُ علماء الطب الحديث بقولهم: الطَّاعون سَبَبُه بَكتِرْيَا عُضْوِية عُنْقُودِية تَصْطَبغ سَلْبًا بِصِبْغَة جرام، وتعتبر بَرَاغِيثُ الفِئْرَانِ النَّاقِلَ الأساسي لميكروب الطَّاعون، وتَتَغَذَّى هذه البَرَاغِيثُ عَلَى الدم (١).
والطَّاعون عند أهل الطب عدة أنواع بالنظر إلى نوعيتها وخطورتها (٢)، ويعتبر بنو إسرائيل أول من أصيب به في القديم؛ إذ انتشر بينهم الفساد والزنا والربا، فعاقبهم الله ﷿ بالطاعون ابْتِلاءً لَهُم وتأدِيبًا؛ وقد جعله الله تعالى سُنَّةً كَونيَّةً، وَوَعِيدًا إِلهِيًّا لِلنَّاس إِذا هُم عصوه جلَّ وعلا، وخالفوا أمره بِنَشر الفساد بينهم، ولهذا صَحَّ عن النبي ﷺ أنه قال: "لَمْ تَظْهَر الفَاحِشَةُ في قَوْمٍ حَتَّى يُعْلِنُوا بِهَا إِلاَّ فَشَا فِيهِم
_________
(١) مقدمة د. محمد البار لكتاب ما رواه الواعون للسيوطي ص ٨، ٣٥.
(٢) نفس المرجع ص ٥٣.
1 / 7
الطاعُونُ والأَوْجَاعُ التي لَم تَكُنْ مَضَت في أَسْلاَفِهِم" (١).
ويمكن القول بأنَّ علماء المسلمين أَوْلَوا اهتمامًا كبيرًا بالحديث عن مرض الطَّاعون، وتفصيل الكلام عنه سواء كان ذلك ضمن شروحهم على كتب الحديث والسنن، أو بالتصنيف المستقل فيه؛ بل إنَّ النصوص التي وصلتنا من تراثنا الإِسلامي عن الطَّاعون في كلام الفقهاء والمحدِّثين تَفُوقُ نُصُوصَ الأطبَّاء المتقدِّمين عنه؛ إذ لا نجد عند هؤلاء سِوَى إِشَارَاتٍ مُتَوَاضِعَة لا تُقَاسُ بِتَفْصيل العلماء من أهل الفقه والحديث إطلاقًا.
وهكذا نجد أنَّ الإِمام البخاري قد عَقَد تحت كتاب الطب بابين في الكلام عن الطاعون، وبَوَّبَ الإِمام مسلم في صحيحه بابًا مُستَقِلًا، وكذا باقي كتب السنَّة النبويَّة، ويأتي بجانب ذلك كله مصنفات العلماء المستقلة عن الطَّاعون، والتي لا يزال تراثنا المجيد يزخر بنصيب وافر منها.
ويُعَد "كتاب الطواعين" لابن أبي الدنيا (٢٨١ هـ) أَوَّلَ مُصَنَّفِ عن الطَّاعون، اعتمد عليه جَمْعٌ مِن الحفَّاظ الذين ألفوا بعده في هذا الموضوع كالحافظ ابن حجر، والسيوطي، وفقيهنا مرعي الكرمي، ثم توالت بعد ذلك المصنَّفات إلى غاية القرن الرابع عشر الهجري.
وفي محاولة لإِحصاء هذه المصنَّفات بلغت قرابة سبعين كتابًا في
_________
(١) رواه ابن ماجه في السنن ح (٤٠١٩)، والدَّاني في السنن الواردة في الفتن ح (٣٢٦)، وإسناده صحيح.
1 / 8
الطَّاعون (١)، لا يزال أغلبها دفين قبور المخطوطات، ولم ير منها نور الطباعة سوى كتاب الحافظ ابن حجر، والسيوطي، وابن كمال باشا؛ مما يدعو الباحثين إلى محاولة النظر فيها، وانْتِقَاء ذَاتِ الأَصَالَةِ منها لتحقيقها، حتى يَتَسَنَّى بذلك لدارسي هذا الموضوع الإِفادة من نصوص العلماء المتقدِّمين على ضوء نتائج علم الطب الحديث.
_________
(١) انظر عن المصنفات في موضوع الطَّاعون: مقدمة الباحث أحمد عصام الكاتب، لكتاب بذل الماعون ص ٢٩، ٤١، ود. محمد البار في مقدمة ما رواه الواعون ص ٨١، ٩٩.
1 / 9
مَنْهَجُ الْفَقِيهِ مَرْعِي الكَرْمي في كِتَابِه "مَا يَفْعَلُه الأَطِبَّاءُ وَالدَّاعُونَ"
اهتمَّ الفقيه مرعي الكرمي بموضوع الطَّاعون اهتمامًا بالغًا دفعه لتصنيف أكثر من كتاب فيه، فقد جمع في رسالته: "تَحْقِيق الظُّنُونِ بِأَخْبَارِ الطَّاعُون" (١)، عدَّة نصوص حول موضوع الطَّاعون، وجعله في عشرين فصلًا تناول في كل فصل منه مسألة من مسائله، وناقشها في ضوء كلام العلماء.
ويظهر جيِّدًا من خلال المقارنة الأولية لكتاب "تحقيق الظنون" مع رسالة "ما يفعله الأطبَّاء والدَّاعون"، أنَّ هذا الأخير يكاد يكون مختصرًا لكتابه الأصل تحقيق الظنون؛ إذ تحدَّث فيه عن قضيتين مهمَّتين، هما: جدوى الأدعية والأذكار في دفع الطَّاعون، والتساؤل عن دَوْرِ الطب في دفع الطَّاعون عن الناس. وقد وجدته يحيل في كتابه "ما يفعله الأطباء والداعون" على كتاب "تحقيق الظنون".
_________
(١) مخطوط تحصَّلت على مصورة منه، تقع في ٤٠ ق.
1 / 10
ولم يكتف بتصنيف هذين الكتابين؛ بل عقد أبوابًا في كتابه: "سلوان المصاب بفرقة الأحباب" (١)، تكلم فيها عن الطَّاعون، ويكاد يكون ما ذكره في "سلوان المصاب" شبه تكرار لما تناوله في كتابيه السابقين.
ولم تذكر لنا المصادر سبب اهتمام شيخنا مرعي الكرمي بموضوع الطَّاعون، وهل كان ذلك استجابة لمن طلب منه جمع مسائل عن الطَّاعون كما صرَّح به في مقدمة "ما يفعله الأطبَّاء والدَّاعون"، أو لانشغال الناس في عصره بهذا الموضوع.
ويمكن تلخيص أهم معالم منهجه في هذه الرسالة في النقاط التالية:
* افتتح كتابه بالحديث عن اختلاف العلماء في جدوى التداوي للطاعون من جهة، وتساءل هل ينفع فيه ما ورد من الأدعية والأذكار؟ فنقل كلام العلماء في ذلك وخلافهم، واستأنس بكلام الحافظ ابن القيم والسيوطي، مع الاستشهاد ببعض النصوص عن ابن سينا في الطب.
* بيَّن حقيقة الطَّاعون عند المتقدمين والخلاف فيه، وكان الشيخ مرعي يتدخَّل بتوجيه ما يراه مناسبًا من النصوص، أو ردّ ما يستبعده فكره ورأيه.
* حاول ترجيح كلام أهل العلم والشرع على كلام الأطباء في مسألة وقت ظهور الطَّاعون، وتحديد الأطباء لذلك ببعض الفصول من
_________
(١) نشر دار الحرمين بالقاهرة عام ١٤٢٠ هـ.
1 / 11
السنة، وهي قضية واضحة لمن قارن بعض النصوص التراثية، إذ يجد بِكُلِّ جَلاءٍ أنَّ علماء الشرع كانوا أَدَقَّ في عدة قضايا عن الطَّاعون من الأطباء كابن سِينا، وَابْنِ النَّفِيس وغيرهم ممن تكلَّموا في مصنفاتهم الطبية عن الطَّاعون (١).
* وأكَّد الشيخ مرعي الكرمي على أنَّ السبب الأكبر في ظهور الطَّاعون وتَفَشِّيه هو ما يقترفه الناس من ذنوب وفواحش، مستشهدًا في ذلك بالأدلة الواردة من السنَّة النبوية.
* استفاد من نُصُوص العلماء الذين سبقوه في التصنيف في الطَّاعون، كابن حجر في كتابه "بذل الماعون"، وخاصة أثناء الحديث عن الألفاظ المشكلة في بعض النصوص النبوية، والسيوطي، وزكريا الأنصاري.
* رَجَّحَ مَذْهبَ جَمَاعَةٍ مِن العلماء في إفادة التداوي والعلاج من الطَّاعون، وإجراءاتهم في هذا الباب، وهي تدابير اشتهرت في تلك العصور.
* رَدَّ بعض الاعتقادات المنحرفة في اتَّقاء الطَّاعون، والتي سادت بين بعض النَّاس في عصره.
* أورد بعض الأدعية والأذكار التي تقال عند الابتلاء بوباء الطَّاعون من السنَّة النبوية، ومن كلام بعض العلماء، في بعضها مَقَالٌ نبَّهت عليه في موضعه.
_________
(١) حاول د. محمد البار مقارنة بعض النصوص الواردة بخصوصها في مقدمته لكتاب السيوطي في الطَّاعون ص ٥١، ٥٧.
1 / 12
* خَتَم كِتَابَه بِإِبْطَالِ كَلامِ المُنَجِّمِين، وتَوضِيحِ أَنَّ تَخَرُّصَاتِهم ضَرْبٌ من الرجم بالغيب، وأَكَّدَ عَلَى عَدَمِ جَوَاز تصديقهم في ما يَدَّعُونه وَيَتَقَوَّلُونَه، وذلك في ضوء الآيات والأحاديث الواردة في التأكيد على انفراد الرب جلَّ وعلا بعلم الغيب، وكذب من ادَّعاه لنفسه كائنًا مَن كان، ﴿قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ﴾ [النمل: ٦٥].
1 / 13
ترجمة المؤلف (١)
اسمه ونسبه:
هو الشيخ العلَّامة الفقيه مرعي بن يوسف بن أبي بكر بن أحمد بن أبي بكر بن يوسف بن أحمد الكرمي (٢) المقدسي.
مولده ونشأته:
وُلِد ﵀ في قرية طور كرم، وانتقل بعد ذلك إلى القدس، ثم ارتحل إلى القاهرة حيث توفي بها.
_________
(١) انظر للمزيد عن حياة المؤلف: النعت الأكمل لأصحاب الإِمام أحمد بن حنبل ص ١٨٩، وخلاصة الأثر للمحبي ٤/ ٣٥٨، وعنوان المجد ١/ ٣١، ومختصر طبقات الحنابلة ص ٩٩، والسحب الوابلة ٤/ ١١١٨، وكشف الظنون ١٩٤٨، وهدية العارفين ٢/ ٤٢٦، وإيضاح المكنون ١/ ٧، ١٨، ٣٤، والأعلام ٧/ ٢٠٣، ومعجم المؤلفين ١٢/ ٢١٨، وتقدمة كتاب أقاويل الثقات للشيخ شعيب الأرنؤوط، وتقدمة كتاب تحقيق البرهان في شأن الدخان للأستاذ مشهور سلمان، وتقدمة كتاب الكواكب الدرِّيَّة في مناقب ابن تيمية للباحث نجم عبد الرحمن خلف.
(٢) نسبة لطور كرم في فلسطين.
1 / 14
عقيدته ومذهبه:
كان مرعي الكرمي ﵀ ينهج في مسائل الاعتقاد منهج السلف في فهم نصوص الصفات، وذلك باعتقاد حقيقتها ومعناها، مع تفويض العلم بالكيفية إلى علم الله تعالى، يظهر ذلك جليًّا في كتابه "أَقَاوِيل الثقَاتِ في تأوِيلِ الأَسْمَاءِ وَالصِّفَات".
أما عن مذهبه في الفروع، فقد كان حنبليًّا، مُخْلِصًا لمذهب الحنابلة؛ يدلُّ على ذلك قوله:
لَئِن قَلَّد النَّاسُ الأَئِمَّة إِنَّنِي ... لَفِي مَذْهَبِ الحَبْرِ ابن حَنْبَلٍ رَاغِبُ
أُقَلِّدُ فَتوَاهُ وَأَعْشَقُ قَوْلَهُ ... وَلِلنَاسِ فِيمَا يَعْشَقُونَ مَذَاهِبُ
ثناء العلماء عليه وشيوخه:
اشتهر الشيخ الفقيه مرعي الكرمي عند العلماء باشتغاله الكلِّي بالعلم، وانهماكه التام في فنون المعرفة والتحصيل، مع الانصراف الكبير إلى التدريس والإِقراء والإِفتاء زمنًا طويلًا، وصفه المُحِبِّي بقوله: أحد أكابر علماء الحنابلة بمصر، كان إمامًا محدِّثًا، فقيهًا، ذا اطِّلاع واسع على نقول الفقه، ودقائق الحديث، ومعرفة تامَّة بالعلوم المتداولة (١).
وأثنى عليه ابن حميد النجدي فقال: العالم العلاَّمة، البحر الفهَّامة، المدقِّق المحقق، المفسِّر المحدِّث، الفقيه الأصولي، النحوي، أحد أكابر علماء الحنابلة في عصره (٢).
_________
(١) خلاصة الأثر ٤/ ٣٥٨.
(٢) السحب الوابلة ٣/ ١١١٨.
1 / 15
وذكره الأستاذ الزِّرِكلي بقوله: مؤرِّخ، أديب، من كبار الفقهاء (١).
وبالجملة فقد وصفه جميع من ترجم له بصفات عالية في العلم والجمع، والتحصيل والتأليف.
آثاره العلمية:
يعتبر الشيخ الفقيه مرعي الكرمي من المكثرين في التأليف والتصنيف؛ فالناظر في مصنفاته يَلفِتُ نَظَرَه تنوُّعُ العلوم والفنون التي صنف فيها من: توحيد، وفقه، وحديث، وتفسير، مما يدل على سَعَة حصيلة الرجل العلمية، وإن كان يغلب على أكثرها الاختصار، لكن ذلك لا يمنع من تمكُّنه في التصنيف، وخاصة ما تعلَّق منها بفقه الحنابلة؛ إذ يُعَدُّ مرجعًا معتمدًا عندهم، وقد لقيت قَبولًا عند أهل المذهب، ويصف المُحِبِّي ذلك بقوله: فسارت بتآليفه الركبان، ومع كثرة أضداده، وأعدائه، ما أمكن أن يطعن فيها أحد، ولا أن ينظر بعين الازدراء إليها (٢).
وقد بلغ إحصاء بعض المترجمين له في عَدِّ مصنفاته زهاء سبعين مصنف كما أثبته المُحِبِّي (٣)، وابن حميد النجدي (٤)، والبغدادي (٥)، والزِّرِكلي (٦)، وانفرد الدكتور عبد الرحمن العثيمين بإيصالها إلى نحو مائة
_________
(١) الأعلام ٧/ ٢٠٣.
(٢) خلاصة الأثر ٤/ ٣٥٨.
(٣) نفس المرجع ٤/ ٣٥٨ - ٣٦٠.
(٤) السحب الوابلة ٣/ ١١٩ - ١١٢١.
(٥) هدية العارفين ٢/ ٤٢٦ - ٤٢٧.
(٦) الأعلام ٧/ ٢٠٣.
1 / 16
كتاب مصنف لمرعي الكرمي، اعتمد في إحصائه -حسب كلامه- على مكتبات خاصة وعامة غير مفهرسة، ولا ندري شيئًا عنها لأنه لم يُسَمِّهَا (١).
كما اجتهد الشيخ شعيب الأرنؤوط في تتبُّع المخطوط منها في خزائن العالم التراثية (٢)، والباحث نجم عبد الرحمن خلف في مقدمة تحقيقه لكتابه: "الكواكب الدرِّيَّة" (٣).
وفاته:
وتوفِّي الشيخ مرعي الكرمي ﵀ مُخَلِّفًا وراءه مكتبة زاخرة بالرسائل والتصانيف النفيسة في شهر ربيع الأول من عام ١٠٣٣ هـ، ودُفن بتربة المجاورين بالقاهرة (٤)، وأَرَّخ صاحب "السُّحب الوابلة" وَفَاته نقلًا عن ابن سلوم في ذي القعدة من عام ١٠٣٢ هـ (٥).
_________
(١) في حاشية له على السحب الوابلة ٣/ ١١١٨.
(٢) مقدمة أقاويل الثقات ص ٣٢ - ٣٨.
(٣) مقدمة الكواكب الدرِّيَّة ص ٢١ - ٢٨.
(٤) خلاصة الأثر ٤/ ٣٦١، معجم المؤلفين ١٢/ ٢١٨.
(٥) السحب الوابلة ٣/ ١١٢٥.
1 / 17
وصف النسخ المعتَمَدة في إخراج الرِّسالتين
- الرسالة الأولى: "إِخْلاَصُ الوِدَاد": اعتمدت على نسخة من ذخائر دار الكتب والوثائق المصرية، ضمن مجموع برقم: ١٧٨١ ف، يضم عدة رسائل للشيخ مرعي الكرمي، وهي تشكِّل الرسالة الثالثة من المجموع، تقع في ورقتين، عدد أسطرها خمسة وعشرون سطرًا، بمعدل ثلاث عشرة كلمة في كل سطر، كُتِبت بخط مشرقي غير واضح في بعض الأحيان، بها إلحاقات ساقطة بالهوامش بنفس خط ناسخ الكتاب.
وقد ترجَّح لدي أنَّ الرسالة بخط المؤلف كما يظهر من مقدمة الكتاب، ويلاحظ عدم وجود ما يفيد انتهاء الرسالة من تصريح المؤلف كما حصل بالنسبة لباقي رسائله، ولعلَّ ذلك قد سقط منها، وهي النسخة الوحيدة -فيما أعلم- إذ لم أجد من أشار إلى وجود نسخة أخرى.
- الرسالة الثانية: كتاب "ما يفعله الأطبَّاء والدَّاعون بدفع شرِّ الطَّاعون": نَشَرْتُه بناء على نسخة دار الكتب المصرية ضمن مجموع برقم ١٧٨١ ف، شكلت فيه الرسالة الثانية، تقع في أربع لوحات، كل لوحة تضم ورقتين، عدد أسطرها خمسة وعشرون سطرًا، في كل سطر ما يقرب من ثلاث عشرة كلمة، خطبها مشرقي غير واضح في بعض المواضع، كتبت الرسالة بخط المؤلف، ولم تخل من السَّقْط الذي كان يلحقه في
1 / 18
كثير من الأحيان بالهامش، ورد في آخرها أنها نُسِخت بتاريخ حادي عشر ربيع الأول من عام إحدى وثلاثين وألف.
وينبغي التنبيه على أنَّ جميع المصادر التي نَسَبَت هذه الرسالة إلى الشيخ مرعي الكرمي، تذكرها بعنوان "ما يفعله الأطبَّاء والدَّاعون لدفع شرِّ الطَّاعون"، بينما الذي وجدته على غلاف الرسالة "بدفع شرِّ الطاعون"، وقد أَثْبَت ما وجدته على غلاف عنوان الكتاب، خاصة وأنَّ الرسالة بخط المؤلف، كما أنَّ لها توجيه من حيث اللغة، إذ يصح قَوْلُ القَائِل لُغَةً: "فعله به" كما نصَّ عليه صاحب "اللسان" (١).
وقد أجمعت المصادر التي ترجمت للشيخ على نسبة الرسالتين له. كما حاولت أن أسلك مسلك التوسُّط في التعليق على النص، وعدم التوسُّع بإثقال الحواشي، وإنما يكون التعليق على الضروري، مع الحرص على تخريج الأحاديث من مصادرها، ونقل حكم الحفَّاظ على إسنادها.
هذا وأسأل الله العليّ القدير أن يوفِّقنا لحسن العمل، ويجنِّبنا الخطأ والزلل. وصلَّى الله على نبيِّه ورسوله محمد وعلى آله وصحبه وسلَّم.
وكتب
خالد بن العربي مُدْرِك العَرُوسي
الإِدريسي الحسني
بجوار بيت الله الحرام في منتصف ليلة الخميس
غزَّة ربيع الأول من عام ١٤٢١ هـ
_________
(١) لسان العرب [مادة: دفع].
1 / 19
صورة أول رسالة "إخلاص الوداد"
1 / 20