وقال ابن جلجل الأندلسي بلد جالينوس من بلاد آسيا شرقي قسطنطينية وكانت مدينة جالينوس اسمها فرغميس ويقال فرغمين وكانت موضع سجن الملوك وهنالك كانوا يسجنون من غضبوا عليه قال وجالينوس هذا كان في دولة نيون قيصر وهو السادس من القياصرة الذين ملكوا رومية وطاف جالينوس البلاد وجالها وتنقل إلى مدينة رومية مرتين وسكنها وغزا مع ملكها لتدبير الجرحي وبرع في الطب والفلسفة وجميع العلوم الرياضية وهو ابن سبع عشرة سنة وأوفى وهو ابن أربع وعشرين سنة وجدد من علم بقراط وشرح كتبه ما كان قد درس وفاق أهل زمانه وكانت له بمدينة رومية مجالس مقامية خطب فيها وأظهر من علمه بالتشريح ما عرف به فضله وبان به علمه وكان أبوه ماسحا لم يكن في زمانه أعلم منه بعلم المساحة وكانت الديانة النصرانية قد ظهرت في أيامه فقيل له أن رجلا قد ظهر في آخر الدولة قيصر ببيت المقدس يبري الأكمه والأبرص ويحيي الموتى فقال أهنالك بقية ممن صحبه فقيل نعم فخرج من رومية يريد بيت المقدس فجاز إلى صقلية وهي يومئذ سلطانية فمات هنالك وقبره بها وعاش ثمانيا وثمانين سنة وهو مفتاح الطب وباسطه وشارحه بعد المتقدمين وله في الطب سنة عشر ديوانا كلها معلقة بعضها ببعض شرط على طالب الطب حفظها والاحتفال بها أن طلب علم الطب من غير برهان وكان جالينوس عالما بطريق البرهان خطيبا وله كتاب ناقض به الشعراء وكتاب في لحن العامة ولم يسبقه أحد إلى علم التشريح وألف فيه سبع عشرة مقالة وكان في زمانه قوم يمسبون إلى علم أرسطوطاليس وهم المسمون المعروفون بأصحاب المظلة وهم الروحانيون وألف عليهم كتابا في الأسباب الملكة إذ كانوا يزعمون أن الروح سبب ماسك زناقض اسقلبياس في الفصد ورد عليه وعلى كثير من القدماء وناقض السوفسطائيين وألف كتابا على أصحاب الحيل في الطب وقال في كتابه في الأمراض العسرة البرء أنه كان مارا بمدينة رومية إذ هو برجل قد حلق حوله جماعة من السفهاء وهو يقول أنا رجل من أهل حلب لقيت جالينوس وعلمني علومه أجمع هذا دواء ينفع الدود في الأضراس وكان الخبيث قد أخذ بندقة معمولة من اللبان والقطران وكان يضعها على الجمر ويبخر بها فم الذي له الأضراس المدودة بزعمه فلا يجد بدا من غلق عينيه فإذا أغلقها دس في فمه دودا قد أغده في حق ثم يخرجها من فم صاحب الضرس فلما فعل ذلك ألقى إليه السفهاء بما معهم ثم تجاوز إلى أن قطع العروق على غير مفاصل قال جالينوس فلما رأيت ذلك أبرزت وجهي للناس وقلت لهم أنا جالينوس وهذا سفيه ثم حذرت منه واستعديت عليه السلطان فملكه فلذلك ألف جالينوس كتابا في أصحاب الحيل وذكر في كتاب قاطاجالس أنه دير في الهيكل بمدينة رومية في نوبة الشيخ المقدم الذي كان يداوي الجرحى وذلك الهيكل هو البيمارستان فبرئ كل من دبره من الجرحى قبل غيرهم وبان بذلك فضله وظهر علمه وكان لا يقنع من علم الأشياء بالتقليد دون المباشرة وشخص جالينوس إلى قبرص ليرى القلقطار في معدنه وكذلك شخص إلى جزيرة لمنوس ليرى الطين المختوم وبار كل ذلك بنفسه وصححه ولم يكن في زمانه أدأب منه في قراءة كتاب على ما ذكره من نفسه وكان يأخذ نفسه كل يوم بقراءة جزء من الحكمة ونهض بالعشي للمعلمين يعرض ذلك عليهم حتى كان أصحابه وإخوانه يلقبونه بالبديع القول وقولب الأوابد ولم يأخذ من أحد الملوك شيئا ولا واكلهم ولا داخلهم كما ذكر في صدر كتابه في حيلة البرء وكان متصفحا لكلام جميع المؤلفين فلم يسلم أحد من القدماء منه إلا مشدوخا ولولا هو ما بقي للعلم ولدرس ودثر من العالم جملة ولكنه أقام آوده وشرح غامضه وبسط مستصحبه وكان في زمانه فلاسفة مات ذكرهم عند ذكره فلم يعرفوا لخمول أسماءهم. وقال محمد بن إسحاق النديم في كتابه ظهر جالينوس بعد ستمائة وخمس وستين سنة من وفاة بقراط وانتهت إليه الرئاسة في عصره وهو الثامن من الرؤساء الذين أولهم اسقلبياذس مخترع الطب وكان معلم جالينوس أرمينس الرومي وأخذ عن اغلوقن وله إليه مقالات وبينة وبينه مناظرات وقال جالينوس في المقابلة الأولى من كتابه في الأخلاق وذكر الوفاء واستحسنه وأتى فيه بذكر القوم الذين نكبوا بأخذ صاحبهم وابتلوا بالمكاره يلتمس منهم أن يبوحوا بمساوئ أصحابهم وذكر معايبهم فامتنعوا من ذلك وصبروا على غلظ المكاره وإن ذلك كان في سنة أربع عشرة وخمسمائة للإسكندر وهذا أصح ما ذكر من أمر جالينوس ووقته وموضعه من الزمان.
وقال قوم آخرون أن جالينوس كان في زمن ملوك الطوائف في أيام قبان بن شايور بن اصغان ومنذ وفاة جالينوس إلى عهدنا هذا وهو سنة اثنين وثلاثين وستمائة على ما أوجبه الحساب الذي ذكره يحيى النحوي وإسحاق بن حنين بعده ألف ومائة وستون سنة تقريبا.
وكان جالينوس وجيها عند الملوك كثير الوفادة عليهم كثير التنقل في البلدان طالبا لمصالح الناس وأكثر أسفاره كان إلى مدينة رومية لأم ملكها كان في أيامه مجذوما وكان يستحضره كثيرا وكان جالينوس كثيرا ما يلتقي مع الإسكندر والأفروديسي وكان الإسكندر يلبه برأس البغل وقد تقدم ذكر ذلك قالوا وإنما لقبه بذلك لعظم رأسه وتوفي جالينوس في أيام ملوك الطوائف وبين المسيح وبينه سبع وخمسون سنة المسيح عليه السلام أقدم منه.
صفحة ٥٧