وفي الحق أن الإمام أبا بكر قد بلغ أقصى الجهد في تصوير رأيه وتوضيحه، وفي الاستدلال له وتأييده، وأنه تركه بعد في غموض، وخلى العلماء منه في اضطراب.
فجمهور النحاة لم يزيدوا به في أبحاثهم النحوية حرفا، ولا اهتدوا منه بشيء، وآخرون منهم أخذوا الأمثلة التي ضربها عبد القاهر بيانا لرأيه، وتأييدا لمذهبه، وجعلوها أصول علم من علوم البلاغة سموه: «علم المعاني»، وفصلوه عن النحو فصلا أزهق روح الفكرة وذهب بنورها. وقد كان أبو بكر يبدي ويعيد في أنها معاني النحو، فسموا علمهم: «المعاني»، وبتروا الاسم هذا البتر المضلل.
كان الذي صرف النحاة عن «مجاز» أبي عبيدة فتنتهم بنحو سيبويه، وقرب عهدهم بكشفه، أما «نظم» عبد القاهر، فقد كان نصيبه أبخس، وشغل الناس عن فهمه أمران:
الأول:
عام يتصل بحال العلم في القرن الخامس، عصر أبي بكر، إذ كانت العقول قد همدت وقيدت بسلاسل من التقليد حرمت عليها أن تقبل أي ابتداع أو تجديد.
الثاني:
خاص يعود إلى طبيعة المذهب، وأن أساسه الذوق وتنبه الحس اللغوي لزنة الأساليب ودرك خصائصها. وقد كانت العجمة إذ ذاك غالبة بغلبة الأعاجم، والعلماء واقفون من علم العربية عند ظاهر لفظها، لا يبلغ بهم الحس اللغوي أن يذوقوا ما ذاق عبد القاهر، ولا أن يدركوا ما أدرك، فاضطر إلى مضاعفة الجهد في الكشف عن رأيه والاحتجاج له، ثم كتب له أن يخلي رأيه - على وضوحه - غامضا يعرض عنه قوم ويحرفه آخرون.
ولقد آن لمذهب عبد القاهر أن يحيا، وأن يكون هو سبيل البحث النحوي، فإن من العقول ما أفاق لحظه من التفكير والتحرر، وإن الحس اللغوي أخذ ينتعش ويتذوق الأساليب، ويزنها بقدرتها على رسم المعاني، والتأثير بها، من بعد ما عاف الصناعات اللفظية، وسئم زخارفها.
وإجمال ما في هذا الفصل أن حس العرب بالإعراب وإكرامهم له دعاهم أن يضبطوا بالنقط آخر الكلمات في القرآن الكريم حين يكتبونه، وأن ممارسة النحاة لهذا الضبط هدتهم إلى كشف علل الإعراب، فكان علم النحو؛ وأن اتجاههم إلى أواخر الكلمات وضبط قواعدها قد صرفهم عما كان ينبغي لهم أن يدرسوه من سائر نحو اللغة، وأنه قد كان من أئمتهم من دلهم على أهدى مما بأيديهم من قواعد الإعراب، فأغفلوه وأعرضوا عنه، موفرين جهدهم على درس الإعراب.
وننظر الآن مبلغ ما كشفوه من سر الإعراب.
صفحة غير معروفة