وأشار أن يوقت الخليفة للجند وقتا يعرفونه في كل ثلاثة أشهر أو أربعة أو ما بدا له أنهم يأخذون فيه، فينقطع الاستبطاء والشكوى، هذا مع كثرة أرزاقهم وكثرة المال الذي يخرج لهم، وأن الجند يحتاجون إلى ما يحتاجون إليه من كثرة الرزق لغلاء السعر. والرأي أن يجعل بعض أرزاقهم طعاما وبعضه علفا يعطونه بأعيانه، ورأى أن لا يخفى على أمير المؤمنين شيء من أخبار هذا الجند وحمالاتهم
25
وباطن أمرهم بخراسان والعسكر والأطراف، وأن يحتقر في ذلك النفقة، ولا يستعين فيه إلا بالثقات النصاح «فإن ترك ذلك وأشباهه أحزم بتاركه من الاستعانة فيه بغير الثقة فيصير جنة للجهالة والكذب» ووصى بأهل المصرين الكوفة والبصرة قائلا: إنهم أقرب الناس إلى أن يكونوا شيعة الخليفة ومعينيه، وإن في أهل العراق من الفقه والعفاف والألباب والألسنة شيئا لا يكاد يشك أنه ليس في جميع من سواهم من أهل القبلة مثله ولا مثل نصفه. وأراده على أن يكتفي بهم، وأنه ما أزرى بأهل العراق إلا أن من ولوا العراق كانوا أشرار الولاة، وأعوانهم من أهل أمصارهم كذلك «فحمل جميع أهل العراق على ما ظهر من أولئك الفسول،
26
وتعلق بذلك أعداؤهم من أهل الشام فنعوه عليهم، ثم كانت هذه الدولة فلم يتعلق من دونكم من الوزراء والعمال إلا بالأقرب فالأقرب ممن دنا منهم، أو وجدوه بسبيل شيء من الأمر، فوقع رجال مواقع شائنة لجميع أهل العراق حيثما وقعوا من صحابة خليفة أو ولاية عمل أو موضع أمانة أو موطن جهاد، وكان من رأي أهل الفضل أن يقصدوا حتى يلتمسوا، فأبطأ ذلك بهم أن يعرفوا أو ينتفع بهم ... فنزلت الرجال عن منازلها؛ لأن الناس لا يلقون صاحب السلطان إلا متصنعين بأحسن ما يقدرون عليه من الصمت والكلام، غير أن أهل النقص هم أشد تصنعا، وأحلى ألسنة، وأرفق تلطفا للوزراء أو تمحلا لأن يثني عليهم من وراء وراء.» ثم ذكره بإصلاح القضاء، وما يصدر عن القضاة من الأحكام المتناقضة، ورجا أن يوحد القضاء، ويوضع للقضاة كتاب يرجعون إليه.
وتعرض لأهل الشام، وذكره أنهم أشد الناس مؤنة، وأخوفهم عداوة وبائقة، فمن الرأي أن يختص منهم خاصة ممن يرجو عنده صلاحا، أو يعرف منه نصيحة أو وفاء، فإن أولئك لا يلبثون أن ينفصلوا عن أصحابهم في الرأي والهوى، ويدخلوا فيما حملوا عليه من أمرهم، ولا يعامل أهل الشام كما عامل أهل العراق من جعل فيئهم إلى غيرهم، وتنحيتهم عن المنابر والمجالس والأعمال، كما كانوا ينحون عن ذلك من لا يجهلون فضله في السابقة والمواضع، ومنعت منهم المرافق كما كانوا يمنعون الناس أن ينالوا معهم أكلة من الطعام الذي يصنعه أمراؤهم للعامة. ورجاه أن يأخذ منهم أهل القوة والغناء وخفة المؤنة والعفة في الطاعة، ولا يفضل أحدا منهم على أحد إلا على خاصة معلومة. وقال بهذا المعنى في إقامة العذر لأهل الشام على نزواتهم، وأنه لم يخرج الملك من قوم إلا بقيت فيهم بقية يتوثبون بها، ثم كان ذلك التوثب هو سبب استئصالهم وتدويخهم.
وذكره بأصحابه «الذين هم بها فنائه، وزينة مجلسه، وألسنة رعيته، والأعوان على رأيه، ومواضع كرامته، والخاصة من عامته.» وأبان أنها مراتب طمع فيها الأوغاد «ممن لا ينتهي إلى أدب ذي نباهة، ولا حسب معروف، ثم هو مسخوط الرأي، مشهور بالفجور في أهل مصره، قد غبر عامة دهره صانعا يعمل بيده، فصار يؤذن له على الخليفة قبل كثير من أبناء المهاجرين والأنصار، وقبل قرابة أمير المؤمنين وأهل البيوتات من العرب، ويجري عليه من الرزق الضعف مما يجري على كثير من بني هاشم وغيره من سروات قريش، ويخرج له من المعونة على نحو ذلك، لم يضعه بهذا الموضع رعاية رحم، ولا فقه في دين، ولا بلاء في مجاهدة عدو معروفة ماضية متتابعة قديمة، ولا غناء حديث، ولا حاجة إليه في شيء من الأشياء، ولا عدة يستعد بها، وليس بفارس ولا خطيب ولا علامة، إلا أنه خدم كاتبا أو حاجبا فأخبر أن الدين لا يقوم إلا به، حتى كتب كيف شاء، ودخل حيث شاء.» ثم ذكره بأمر فتيان أهل بيته وبني أبيه وبني علي وبني العباس، ووصفهم بأن فيهم رجالا لو متعوا بجسام الأمور والأعمال سدوا وجوها، وكانوا عدة لأخرى.
ومن أهم ما ذكره به أمر الأرضين والخراج. قال: «فليس للعمال أمر ينتهون إليه ولا يحاسبون عليه، ويحول بينهم وبين الحكم على أهل الأرض بعدما يتأنقون لها في العمارة، ويرجون لها فضل ما تعمل أيديهم، فسيرة العمال فيهم إحدى ثنتين: إما رجل أخذ بالخرق والعنف من حيث وجد، وتتبع الرجال والرساتيق بالمغالاة ممن وجد، وإما رجل صاحب مساحة يستخرج ممن زرع، ويترك من لم يزرع فيعمر من يعمر ويسلم من أخرب.» وأراده على أن يعمل رأيه «في التوظيف على الرساتيق والقرى والأرضين وظائف معلومة، وتدوين الدواوين بذلك، وإثبات الأصول حتى لا يؤخذ رجل إلا بوظيفة قد عرفها وضمنها، ولا يجتهد في عمارة إلا كان له فضلها ونفعها» ليكون في ذلك صلاح للرعية، وعمارة للأرض، وحسم لأبواب الخيانة وغشم العمال. قال: «وهذا رأي مؤنته شديدة، ورجاله قليل، ونفعه متأخر، وليس بعد هذا في أمر الخراج إلا رأي قد رأينا أمير المؤمنين أخذ به، ولم نره من أحد قبله، من تخير العمال وتفقدهم.»
ثم ذكره بجزيرة العرب، وأن يختار لولايتها الخيار من أهل بيته وغيرهم؛ لأن ذلك من تمام السيرة العادلة والكلمة الحسنة التي قد رزق أمير المؤمنين وأكرمه بها من الرأي الذي هو بإذن الله حمى ونظام لهذه الأمور كلها في الأمصار والأجناد والثغور والكور. ومما قاله في خاتمة كتابه: «إن بالناس من الاستخراج
27
صفحة غير معروفة