وكأن سياسة الدولة في هذا العهد كانت صورة من سياسة الحجاج؛ فقد كتب إليه الوليد يأمره أن يكتب إليه بسيرته فكتب إليه: إني أيقظت رأيي وأنمت هواي، وأدنيت السيد المطاع في قومه، ووليت الحرب الحازم في أمره، وقلدت الخراج الموفر لأمانته، وقسمت لكل خصم من نفسي قسما أعطيته حظا من لطيف عنايتي ونظري، وصرفت السيف إلى النطف
82
المسيء، والثواب إلى المحسن البريء، فخاف المريب صولة العقاب، وتمسك المحسن بحظه من الثواب. ا.ه.
ولما أفضى الأمر إلى سليمان بن عبد الملك أقر عمال من كانوا قبله على أعمالهم، وجلس في صحن المسجد وقد بسطت لديه البسط والنمارق
83
عليها، وصفت الكراسي، وأذن للناس بالجلوس، وإلى جانبه الأموال والكساوي وآنية الذهب والفضة، فيدخل وفد الجند ويتقدم صاحبهم فيتكلم عنهم وعمن قدموا من عنده، فيأمر سليمان بما يصلحهم ويرضيهم، فما يطلب أحد شيئا إلا نوله مرامه، ورد المظالم، وعزل عمال الحجاج، وأخرج من كان في سجنه في العراق، وأعتق سبعين ألف مملوك ومملوكة وكساهم.
إدارة عمر بن عبد العزيز
عمل الخلفاء السبعة الأول من الأمويين في إدارة الملك الإسلامي بما أوحاه إليه عقلهم وعملهم ، فكان الصحابة منهم والتابعون على مثال خالفوا فيه مرغمين بعض طريقة الراشدين؛ لأن علمهم بالناس زاد بما فتح الله عليهم من البلاد، ولأنه نشأت أحداث جديدة، ودخلت في الإسلام عناصر أخرى. وكان عهد الأمويين صورة من دولة عادلة تتساهل في الأخذ بما لا يضر من الأوضاع، وتقتبس ما تضطرها إليه طبيعة البلاد المفتتحة. وأكثر ما اهتموا له توفير الجباية مع النظر إلى عمران البلاد والدفاع عن الحوزة، والحساب للمستقبل بادخار فضل الأموال، والظهور بمظهر دنيوي لا يعبث بأصل من أصول الدين.
كان أكثر خلفاء الأمويين يقيلون العامل إذا حدث في جهته خرق لا يستطيع رتقه، أو فتنة تهرق فيها الدماء، وتكلف الدول مالا، وجعلوا همهم في مقاتلة الخوارج والشيعة في الداخل، وغزو الروم والتوسع في الفتح من الشرق والغرب في الخارج، وكثيرا ما كانت بعض الأنحاء تثور على الدولة، إما لسبب تفاحش الخراج، أو لأسباب أخرى كما كان من قبط مصر فخرجوا غير مرة على الأمويين وعلى من خلفوهم، وكانوا يرجعون مخذولين، وربما كان من بعض عمالهم من اشتط في تقاضي الخراج والجزية والصدقات، والظلم ما خلا عصر منه، وخصوصا في دولة ليست مشاكلها متشاكلة، ولا أجيال الناس في أصقاعها متوحدة متماثلة، وغاية ما يقال في الإدارة المتبعة أبدا توسيع سلطة العامل، حتى يسرع في فض مصالح الناس، ذلك لأن العرب ألفوا التقاضي على عجل، وما عرفوا التطويل في الخصومات والمراجعات. وهذا ما كان ظاهرا كل الظهور في عهد الخوالف من بني أمية، ولا سيما في خلافة عمر بن عبد العزيز واسطة عقد الأمويين، والمثل الأعلى للعدل الإسلامي.
كان عمر قبل أن يقلد الخلافة عهد إليه الوليد بن عبد الملك بإمارة الحجاز «مكة والمدينة والطائف» فأبطأ عن الخروج فقال الوليد لحاجبه: وما بال عمر لا يخرج إلى عمله! قال: زعم أن له إليك ثلاث حوائج قال: فعجله علي. فجاء به الوليد، فقال له عمر: إنك استعملت من كان قبلي فأنا أحب أن لا تأخذني بعمل أهل العدوان والظلم والجور. فقال له الوليد: اعمل بالحق وإن لم ترفع إلينا درهما واحدا.
صفحة غير معروفة