وكان لا يقرب الشعراء، ولكنه يجرى عليهم رزقا يكفيهم. كتب مرة إلى المغيرة بن شعبة أن استنشد من قبلك من الشعراء ما قالوا في الجاهلية والإسلام
74
فأرسل إلى الأغلب العجلي فقال: إنه على استعداد لأن ينشده، ثم أرسل إلى لبيد بن ربيعة فقال: أنشدني. فقال: إن شئت أنشدتك مما عفي عنه من شعر الجاهلية، قال: لا، أنشدني ما قلت في الإسلام. فانطلق إلى أديم فكتب فيه سورة البقرة فقال: أبدلني الله مكان الشعر هذا. قال فكتب بذلك إلى عمر، فكتب إليه عمر: إنه لم يعرف أحد من الشعراء حق الإسلام إلا لبيد بن ربيعة، فأنقص من عطاء الأغلب خمسمائة واجعلها في عطاء لبيد. •••
نهج عمر بن الخطاب لمن يخلفه النهج الذي يجب السير عليه في تدبير الملك، وأوصى الخليفة بعده أن يقر عماله سنة فيما قيل، وأوصاه
75
بتقوى الله لا شريك له، وبالمهاجرين الأولين خيرا، وأن يعرف لهم سابقتهم، وأوصاه بالأنصار خيرا يقبل من محسنهم ويتجاوز عن مسيئهم، وأوصاه بأهل الأمصار خيرا فإنهم ردء العدو وحياة الفيء، وأن لا يحمل فيئهم إلا عن فضل منهم، وأوصاه بأهل البادية خيرا فإنهم أصل العرب ومادة الإسلام، وأن يأخذ من حواشي أموال أغنيائهم فيرده على فقرائهم، وأوصاه بأهل الذمة خيرا، وأن يقاتل من ورائهم ولا يكلفهم فوق طاقتهم إذا أدوا ما عليهم للمؤمنين طوعا أو عن يد وهم صاغرون، وأوصاه بالعدل في الرعية والتفرغ لحوائجهم وثغورهم، وأن لا يؤثر غنيهم على فقيرهم، وأن يشتد في أمر الله وحدوده ومعاصيه على قريب الناس وبعيدهم، ثم لا تأخذه في أحد رأفة حتى ينتهك منه مثل ما انتهك من حرم الله، ويجعل الناس عنده سواء لا يبالي على من وجب الحق، ثم لا تأخذه في الله لومة لائم، وأوصاه أن لا يرخص لنفسه ولا لغيره في ظلم أهل الذمة، وأنشده الله أن يرحم جماعة المسلمين، ويجل كبيرهم، ويرحم صغيرهم، ويوقر عالمهم، وأن لا يضربهم فيذلوا، ولا يستأثر عليهم بالفيء فيغضبهم، ولا يحرمهم عطاياهم عند محلها فيفقرهم، ولا يجمرهم في البعوث فيقطع نسلهم، ولا يجعل المال دولة بين الأغنياء منهم، ولا يغلق بابه دونهم فيأكل قويهم ضعيفهم.
ولما أفضى الأمر إلى عثمان بن عفان حافظ على الأوضاع التي وضعها عمر، وكان أول كتبه إلى أمراء الأجناد: «قد وضع لكم عمر ما لم يغب عنا بل كان على ملأ منا، ولا يبلغني عن أحد منكم تغيير ولا تبديل فيغير الله ما بكم، ويستبدل بكم غيركم.» وكان أول كتبه إلى عماله: «فإن الله أمر الأئمة أن يكونوا رعاة، ولم يتقدم إليهم أن يكونوا جباة، وإن صدر هذه الأمة قد خلقوا رعاة ولم يخلقوا جباة، وليوشكن أئمتكم أن يصيروا جباة ولا يكونوا رعاة، فإذا عادوا كذلك انقطع الحياء والأمانة والوفاء. ألا وإن أعدل السيرة أن تنظروا في أمور المسلمين وفيما عليهم ، فتعطوهم ما لهم وتأخذون بما عليهم، ثم تثنوا بالذمة فتعطوهم الذي لهم وتأخذوهم بالذي عليهم.» وكتب إلى عمال الخراج: «أما بعد فإن الله خلق الخلق بالحق، فلا يقبل إلا الحق، خذوا الحق وأعطوا الحق، والأمانة الأمانة قوموا عليها ولا تكونوا أول من يسلبها فتكونوا شركاء من بعدكم إلى ما اكتسبتم، والوفاء الوفاء لا تظلموا اليتيم ولا المعاهد فإن الله خصم لمن ظلمهم.» وكتب في الأمصار أن يوافيه العمال في كل موسم ومن يشكوهم، وكتب إلى الناس في الأمصار أن «ائتمروا بالمعروف وتناهوا عن المنكر، ولا يذل المؤمن نفسه فإني مع الضعيف على القوي ما دام مظلوما إن شاء الله.»
واعتمد عثمان لأول ولايته في مشورته على من اعتمد عليهم الشيخان من قبل، وفي الولايات على بعض من كانوا عمالا لعمر، ثم على أناس من أهله وعشيرته، وممن اعتمد عليهم مروان بن الحكم. وكان مروان في ولايته على المدينة يجمع أصحاب الرسول يستشيرهم، ويعمل بما يجمعون له عليه. ولم يكن عثمان مبتدعا بل كان متبعا؛ اتبع سيرة العمرين
76
في الحكومة، وما عزل أحدا إلا من شكاة أو استعفاء من غير شكاة. وكثر المال في أيامه فكان لا يتوقف في إنفاقه. قيل: إنه باع غنائم إفريقية بخمسمائة ألف دينار وأعطاها مروان ولم يطالبه بها، ولم يزل المال متوفرا حتى لقد بيعت الجارية بوزنها ورقا، وبيع الفرس بعشرة آلاف دينار، وبيع البعير بألف، والنخلة الواحدة بألف، وأعطى عبد الله بن الأرقم - وكان عمر استعمله على بيت المال - ثلاثمائة ألف درهم فأبى أن يقبلها وقال: عملت لله وإنما أجري على الله.
صفحة غير معروفة