كتاب الإيضاح في شرح المصباح
تصانيف
والدليل على ذلك: القول الصحيح أن الحاجة لا تجوز إلا على من جازت عليه الشهوة والنفار لأن معنى الحاجة الدواعي الداعية إلى جلب نفع أو دفع ضرر بدليل أنه لا يجوز أن يثبت بأحد اللفظين وينفى بالآخر، فلا يجوز أن يقال أنا محتاج إلى هذا الطعام وما دعاني إليه داع ولا يقال دعاني إليه داع ولست بمحتاج إليه بل يعد من قال ذلك مناقضا. فثبت أن الحاجة هي الدواعي الداعية إلى جلب نفع أو دفع ضرر، والمنفعة: هي اللذة والسرور وما أدى إليهما بدليل أنه لا يثبت بأحد اللفظين وينفى بالآخر فلا يجوز أن يقول قائل انتفعت بهذا الفعل وما تلذذت به ولا سررت ولا العكس بل يعد (من قال ذلك) مناقضا. واللذة: هي المعنى المدرك بمحل الحياة فيه مع الشهوة له، وحقيقة السرور هو علم الحي أو ظنه أو اعتقاده بأن له في الفعل جلب منفعة أو دفع مضرة والذي يؤدي إليهما كالطاعات فإنها وإن كانت شاقة متعبة في الحال فإنها تسمى منفعة لأنها تؤدي إلى المنفعة ، والشيء قد يسمى باسم ما يؤدي إليه قال الله تعالى{قال أحدهما أني أراني أعصر خمرا}(يوسف:36) فسماه خمرا لما كان مؤديا إلى الخمر. والمضرة هي الألم والغم وما يؤدي إليهما بدليل أنه لا يجوز أن يثبت بأحد اللفظين وينفى بالآخر، فلا يجوز أن يقال تضررت بهذا الفعل وما تألمت به ولا العكس بل يعد من قال ذلك مناقضا. والألم: هو المعنى المدرك بمحل الحياة فيه مع النفرة عنه. والغم: هو علم الحي أو ظنه أو اعتقاده بأن عليه في الفعل جلب مضرة أو فوت منفعة والذي يؤدي إليهما كالمعاصي فإنها وإن كانت شهية لذيذة في الحال فإنها تسمى مضرة لما كانت تؤدي إلى المضرة وهو العقاب الدائم، والشيء قد يسمى باسم ما يؤدي إليه قال تعالى{إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما إنما يأكلون في بطونهم نارا (وسيصلون سعيرا) }(النساء:10) فسمى ما يأكلون نارا لما كان يؤدي إلى النار. فعلم بهذا التدريج ملازمة الحاجة للشهوة والنفار، وعلم أيضا ملازمة الشهوة والنفار للذة والألم يعرف ذلك بتأمل الحدود التي ذكرنا فافهم أرشدك الله . فوجب القطع بأن الشهوة والنفار لا تجوزان إلا على من جازت عليه اللذة والألم فيلتذ بإدراك ما يشتهيه ويستر به ويتألم بإدراك ما ينفر عنه ويغتم به. (واللذة والألم) لا تجوزان إلا على من جازت عليه الزيادة والنقصان لحصول الزيادة باللذة والنقصان بالألم وعند النظر في حقيقة الألم واللذة لا يحتاج إلى واسطة الزيادة والنقصان إذ هما لا يجوزان إلا على الأجسام وعند جعلهما واسطة، يقال والزيادة والنقصان لا يجوزان إلا على من كان جسما ذلك معلوم قطعا، والقصر كما أسلفنا (في المسألة التي قبل هذه) فيه نظر إذ ذلك يدخل الأعراض كما لا يخفى (والله أعلم) . وهو تعالى ليس بجسم لأن الأجسام محدثة وهو تعالى قديم (على ما) تقدم من بيان ذلك وإقامة الدليل عليه، وأيضا فإن الشهوة والنفار عرضان ولا يكونان إلا في جسم وهو تعالى ليس بجسم، وأيضا فإنه لو كان تعالى مشتهيا ونافرا لكان مشتهيا ونافرا بذاته لبطلان غيرها كما مر في الصفات ولزوم أن توجد المشتهيات جميعا إذ لا اختصاص لذاته لمشتهى دون مشتهى، وإذا اشتهاها أوجدها لقدرته عليها، ولو كان نافرا لذاته لم يخلق شيئا من المنفرات، فلما لم يوجد المشتهيات وثبت خلقة لشيء من المنفرات مع عدم المانع دل ذلك على غناه، ومن الأدلة على أنه تعالى غني أنه لم يجبر من عصاه على الطاعة مع القدرة على ذلك، فثبت بذلك المذكور من الأدلةالقطعية أن الله غني لا يحتاج إلى شيء أصلا لا في وجوده ولا في ذاته ولا في شيء من صفاته ولا في أفعاله وتأثيراته ولا في ما يحتاج إليه الحي من منافعه وشهواته، ولهذا بطل قول المعتزلة أن الصفات وجبت له تعالى وجازت علينا فلابد من أمر أوجبها له إما العلة أو المقتضى وهو الصفة الأخص، ويجب على المكلف اعتقاد أن الباري جل وعلا غني فيما لم يزل وفيما لا يزال ولا يجوز خروجه عن هذه الصفة بحال من الأحوال.
صفحة ١٠٤