112

والدليل على ذلك المذهب الصحيح وهو مذهب أهل العدل ومن وافقهم أن أفعال العباد غير مخلوقة فيهم بل هي موجودة بإحداثهم وتأثيرهم وإرادتهم أنه يحسن أمرهم ببعضها ونهيهم عن بعض وثوابهم ومدحهم على الحسن منها. وحقيقة الحسن مالا يستحق على فعله الذم فيشمل الواجب والمندوب والمباح والمكروه وأنت خبير بأنه لا مدخل للثواب في المباح أصلا ولا فعل المكروه بل في تركه، فإطلاق أنه يحسن الثواب على الحسن لا يخلو من خبط، اللهم إلا أن يكون المراد به المعنى الخاص وهو ما فعله أولى من تركه كالواجب والمندوب فقط فذلك مستقيم ولكن المعنى الأول هو المراد حيث أطلق في هذا الفن وعقابهم وذمهم على القبيح منها. والقبيح له حقيقتان: حقيقية، ورسمية، فالحقيقية هو ما ليس للقادر عليه المتمكن من فعله الإقدام عليه على الإطلاق، والرسمية هو ما إذا فعله من كان قادرا عليه استحق الذم على بعض الوجوه، وقولنا على بعض الوجوه نحترز عن الخطأ وما يصدر عن النائم والساهي من القبائح وكذلك أفعال الصبيان والبهائم وكذلك المسبب للقبيح إذا تراخى عن سببه إذا وقعت التوبة قبل حصوله فإن هذه قبائح ولا يستحق على فعلها الذم. فثبت أن أفعال العباد يتعلق بها الثواب والعقاب والمدح والذم. فلو كانت من الله لما حسن فيها شيء من ذلك كما لم يحسن شيء من ذلك على صورهم وألوانهم، فإذا حسن ثوابهم وعقابهم ومدحهم وذمهم على أفعالهم ولم يحسن شيء من ذلك على صورهم وألوانهم علمنا الفرق بين أفعال العباد وبين الصور والألون ودل ذلك على أن أفعالهم منهم لا من الله تعالى وذلك متقرر في عقل كل عاقل. دليل ثان: وقوع الفعل بحسب داعي العبد وإرادته وانتفاؤه بحسب صارفه وكراهته ولو كانت منه تعالى ما كانت فيها هذه القضية فهذان أصلان: والذي يدل على الأول أن الواحد منا إذا دعاه الداعي المكين إلى إيجاد فعل منها حصل منه لا محالة، ومتى كرهه أو منعه منه مانع لم يحصل، والذي يدل على الثاني أن أفعالنا لو كانت من الله تعالى لجرت مجرى الصور والألوان فكما أن صورهم وألوانهم لا توجد بحسب قصودهم ودواعيهم ولا ينتفي بحسب كراهتهم وصوارفهم لما كانت (فعل الله) فكذلك كان يجب في أفعالنا لو كانت منه (تعالى). فلما علمنا الفرق بين الأفعال وبين الصور والألوان دل ذلك على أن أفعالنا منا لا من الله تعالى. دليل ثالث: هو أن أفعال العباد لو كانت من الله لوجب أن يشتق له منها اسما فيسمى بفعله للظلم ظالما وبفعله للجور جائرا ، كما أنه لما كان فاعلا للعدل والإحسان سمي عادلا ومحسنا ولاشك أن من وصف الله تعالى بالظلم والجور فقد خرج عن دائرة المسلمين ودخل في زمرة الملحدين، فبطل إضافتها إلى الله تعالى. وأما ما يتعلق به أهل الكسب فهو تعلق لا طائل تحته وركون إلى غير معقول، وإنما غرضهم بذلك الفرار مما ألزمهم أهل العدل من قبح الأمر والنهي وإنزال الكتب وإرسال الرسل، لأن الأفعال إذا كانت خلقا لله تعالى لم يحسن إرسال الرسل ولا إنزال الكتب، لأن لهم أن يقولوا إذا كانت أفعالنا خلقا لله سبحانه فينا فلأي غرض جئتمونا فإرسالكم يكون قبيحا لأن الله تعالى إن فعلها فينا حصلت وإن لم يفعلها لم تحصل، فلا فائدة حينئذ في إرسالكم إلينا، ثم أنا نقول لهم الكسب لا يخلو إما أن يكون شيئا خلقه الله أو شيئا لم يخلقه الله، فإن قالوا هو شيء خلقه الله فقد لحقوا بمقالة الجهمية ولزمهم ما ألزمناهم وإن قالوا هو شيء لم يخلقه الله فقد أثبتوا العبد فاعلا لشيء لم يخلقه الله سبحانه وهو الذي نريد، ولأن المعقول من الكسب في لغة العرب هو إحداث الفعل لجلب منفعة إلى الفاعل أو دفع مضرة عنه، ولهذا لم نجز أن يسمى الباري سبحانه مكتسبا لاستحالة المنافع والمضار عليه، فإذا ثبت أن العبد محدث لفعله بطل ما تعلقوا به من الكسب ووجه إضافته إلى العبد من كل وجه من الوجوه، وقد أضاف الله تعالى أفعال العباد إليهم في كتابه الكريم بمعنى الفعل والخلق والعمل والكسب فقال تعالى{والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم ومن يغفر الذنوب إلا الله ولم يصروا على ما فعلوا وهم يعلمون}(آل عمران:135) وقال { وتخلقون إفكا}(العنكبوت:17) وقال تعالى{وإذ نخلق من الطين كهيئة الطير}(المائدة:110) وقال تعالى{يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضرا وما عملت من سوء تود لو أن بينها وبينه أمدا بعيدا}(آل عمران:30) وقال تعالى{ولهم أعمال من دون ذلك هم لها عاملون}(المؤمنون:63) وقال {ومن يكسب خطيئة أو إثما ثم يرم به بريا فقد احتمل بهتانا وإثما مبينا}(النساء:112). فإذا تطابقت الأدلة من العقل والسمع على أن أفعال العباد منهم لم نجز إضافتها إلى الله تعالى، قالوا: قال الله تعالى{والله خلقكم وما تعملون}(الصافات:96) وما مصدرية أي وعملكم.

صفحة ١٣٤