لا ريب في أن ألمانيا التي اخترعت هذا النوع من الرقص بلاد ما خفيت حقيقة الحب عن أهلها.
وكنت أخاصر راقصة رائعة الجمال تنتمي إلى المسرح الإيطالي، جاءت إلى باريس لتمضية أعياد المرفع، وكانت بزي الراقصات في هيكل إله الخمر ترتدي قفطانا من جلد النمور، وما كنت رأيت في حياتي امرأة تشبه هذه المرأة في دلالها، فقد كانت ممشوقة القد، ناحلة القوام، تنطلق في خطواتها بسرعة، ولكنك تخالها تنسحب انسحابا وهي تتقصف في دلها، ولقد يحسب الناظر إليها أنها تتعب مراقصها، في حين أنه لا يحس بها إلا كخيال ميال بين ساعديه.
وكانت هذه الغانية مزينة صدرها بطاقة كبيرة من الورد تورثني نشوة أين منها نشوة الراح، وكانت تنطوي على ساعدي لأقل حركة كأنها من الأماليد عاشقات الشجر، فإخالها بما فيها من ليونة وعذوبة خلابة وشاحا من ناعم الحرير يلفني كأذيال الغمام. وكان عقدها المتدلي من عنقها يهتز في كل دورة من دوران الرقص ضاربا على نطاقها المعدني، فأسمع له صوتا خافتا كحفيف الغصون. وكان في حركاتها من الجلال ما يوقفني منها أمام كوكب رائع يبتسم لي؛ فإخالها جنية تنشر جناحيها لتعود أدراجها، وكأن الموسيقى الشجية الهائمة كانت تصدح من بين شفتيها وهي مائلة برأسها إلى الوراء تكللها الضفائر السوداء، وقد أرهق عنقها من ثقلها فالتوى.
وما انتهى دور الرقص حتى ارتميت على مقعد في زاوية القاعة، وكان قلبي ينبض بسرعة قطعت أنفاسي، فهتفت قائلا: يا الله مما رأيت! يا للمسخ الرائع! ويا لك من أفعى كلها حسن وجمال، تعرف كيف تلتف، وكيف تتململ بجلدها اللين الأرقط! لقد علمتك حية الجنان المغوية كيف تلتفين على شجرة الحياة وبين أسنانك ثمرة الموت. يا لك ساحرة تتحكمين في قلوب الناس، وتعلمين ما يفعل بهم هذا الدلال وهو يتجاهل قوته! وهلا تعلمين أنك تهلكين وتغرقين، وأن كل من لمسك سيحل به العذاب، وأن ابتسامك وعبق أزهارك والاقتراب إلى ملاذك يؤدي إلى الموت ... ذلك هو سر الحلاوة في افترار ثغرك، وتفتق أزهارك، فأنت تعرفين هدفك عندما ترسلين معصمك متراخيا على الكواهل.
لقد أعلن الأستاذ هاللي حقيقة مروعة حين قال: «إن المرأة عصب البشرية، والرجل عضلها.» وقد قال هومبولت العالم الجدي نفسه: إن أعصاب البشر يحوطها إشعاع خفي، وأتباع سبلانزاني يعتقدون أيضا أنهم اكتشفوا الحاسة السادسة. إن في هذه الطبيعة التي تقذف بنا إلى الوجود، ثم تدفعنا إلى الموت وهي هازئة بنا، من القوات الخفية ما يكفيها، فلا نضيفن إلى ما نتسكع به من ظلمات ظلمات أخرى.
ولكن أي رجل يعتقد أنه تمتع بالحياة إذا هو أنكر سلطان المرأة عليه، إذا هو لم يحس بارتعاش ساعديه بعد أن يكون خاصر امرأة جميلة وراقصها، وإذا هو لم ينفذ إليه ذلك الشيء المجهول، أو تلك الكهارب المسكرة التي تنتشر في المرقص حين تتعالى النغمات، ويكسف لهب الجسوم أنوار المصابيح. وما تنتشر هذه الكهارب إلا من أجسام الحسان فيتكهربن بها أولا، ثم تهب منهن كالعبق المتصاعد من مبخرة تتمايل مع الرياح.
واستولى علي خبل مريع، وما كنت أجهل أن الحب يورث هذا الثمل، وما كانت هذه أول مرة عرفته، ولكنني ما كنت أعلم من قبل أن بوسع امرأة أن تدفع بالقلب إلى مثل هذا الخفوق، وأن تثير في المخيلة مثل هذه الأشباح بجمالها، وبأزهارها، وبثوب مخطط كجلد الحيوان المفترس، وبحركات دوران اقتبستها من أحد المهرجين، وبالتفاف معصم بض على كتف، وذلك دون أن تنبس بكلمة أو تبدي فكرة واحدة كأنها تترفع عن الاعتراف بعزتها وسلطانها.
وما كان ما أشعر به من الحب، بل من الظماء المحرق؛ فإنني لأول مرة في حياتي كنت أشعر باهتزاز أوتار مشدودة مني على غير قلبي، فإن تجلي هذا الحيوان الرائع لعيني كان قد استنطق وترا غير أوتار القلب في أحشائي، وما كنت أحس بنفسي ما يدفعني إلى أن أقول لهذه الغانية: إنني أحببتها، أو أعجبت بها، أو حتى لأعلن لها تقديري لجمالها، بل كنت أشعر أن على شفتي تعطشا للالتصاق بشفتيها لأقول لها: منطقيني بهذين المعصمين المتراخيين، وألقي على كتفي رأسك المائل، وارشقي بهذه البسمة العذبة شفتي.
لقد عشق جسدي جسدها، فكنت من جمالها في سكرة كسكرة الراح.
ومر بي ديجنه فسألني عما أفعل حيث كنت، فأجبته: من هي هذه المرأة؟ فقال: وأية امرأة تعني؟ فقبضت على ساعده وسرت به في القاعة، ولحظت الإيطالية أننا نتجه نحوها فابتسمت، وإذ تراجعت قليلا قال ديجنه: آه! لقد رقصت مع ماركو ... - ومن هي ماركو؟ - هي تلك المدللة الضاحكة هنالك ... فهل أنت معجب بها؟ - لا، لقد رقصت معها، وأحب أن أعرف اسمها. وهذا كل إعجابي بها.
صفحة غير معروفة