وناجاه البعض بالمديح والإطراء، فأشار إلى مثل هؤلاء بالذهاب إلى القاعة الكبرى حيث تتكفل الأصداء بإذاعة مجد الملك العظيم ... وزحف آخرون عند أقدام العرش عارضين ما أخلق الزمان من أرديتهم، وقد نزعوا عنها شارات العهد البائد، فكان الملك يأمر لهؤلاء الخونة بالخلع السنية ...
وكانت الشبيبة تشهد هذه المهازل متوقعة ظهور خيال القيصر على شواطئ «كان» ليرسل عاصفته الكاسحة على هذه الحشرات.
تعثرت الآمال، وطال السكون، فلم تلح في الآفاق غير الزنابق الصفراء شارة الملكية المتحكمة.
وسأل الفتيان عن الأمجاد فقيل لهم: اعتنقوا الكهنوت.
وسألوا عن الأماني فقيل لهم: اعتنقوا الكهنوت.
وسألوا عن الحب والقوة والحياة فقيل لهم: صيروا كهنة.
واعتلى المنبر في ذلك الزمن رجل يحمل عقد اتفاق بين الملك والشعب، فقال: جميلة هي العظمة والمطامع والحروب! ولكن هنالك ما هو أجمل منها جميعا: هنالك الحرية.
فرفع الفتيان رءوسهم وتذكروا أجدادهم الذين تكلموا هم أيضا عن الحرية، وعادت إلى مخيلتهم تلك الدمى الرخامية التي كانوا يرونها في زوايا بيوت آبائهم، وقد تدلت شعورها ونقشت على قواعدها تواريخ رومانية.
وتذكروا أيضا أنهم شاهدوا أجدادهم في ليلة سمر يهزون رءوسهم، ويذكرون معارك تفجرت فيها الدماء بما يفيض عن النهر الذي أساله الإمبراطور؛ لذلك دوت كلمة الحرية في آذان هؤلاء الفتيان بصوت نبضت له قلوبهم، كأنهم يصغون في آن واحد إلى صوتين: أحدهما صوت الذكرى البعيدة المروعة، وثانيهما صوت الأمل المنشود يتراجع من مستقبل أبعد من الماضي.
هزت كلمة الحرية هؤلاء الفتيان بنشوتها السحرية، ولكنهم شاهدوا وهم عائدون إلى مساكنهم ثلاث جثث لثلاثة شبان تجرءوا على التلفظ بكلمة الحرية؛ فمرت على الشفاه ابتسامة ملؤها الأسى.
صفحة غير معروفة