الفصل الرابع
وكان قلبي يهيب بي إلى الرحيل، فأرجئ السفر من يوم إلى يوم؛ إذ كنت أشعر في كل مساء بلذة مريرة تسمرني في مكاني، وكنت في كل مرة أتوقع فيها زيارة سميث يملكني اضطراب لا يهدأ حتى أسمع قرع جرس الباب منذرا بوصوله. فما هي يا ترى هذه العاطفة المضمرة فينا يستهويها الألم، ويشد بها الشقاء؟
وكنت كل يوم أرتعش لكلمة أسمعها، أو لبارق لحظ أباغته، ثم تردني هذه الكلمة نفسها، وهذه البارقة عينها في اليوم الثاني إلى الحيرة والارتياب بريبتي، وما أدري لماذا كنت أرى بريجيت وسميث غارقين في بحر من الأحزان، كما لا أعلم لماذا كنت أشخص متأملا فيهما وأنا لا أبدي ولا أعيد، في حين أنني ما كنت أملك ثورة نفسي في مثل هذا الموقف. لقد كنت أحس بشيء من الخبل، وفي من الغيرة العنيفة في الحب ما يشبه غيرة الشرق في لهب غرامه.
وكنت أمضي أيامي في الانتظار دون أن أعرف ما أنتظر، حتى إذا أمسيت قعدت على سريري قائلا: لأفكرن في هذا الأمر، فأسند رأسي بيدي ولا ألبث حتى أصيح: لا، إن هذا مستحيل، ثم أعود إلى مثل هذا العمل في الليلة التالية.
وكانت بريجيت تبدي لي من التحبب أمام سميث ما لا تبدي مثله ونحن منفردان، حتى إنها ذات ليلة كانت ذاهبة معي في مجادلة قاسية، فما سمعت صوت سميث في البهو حتى هرعت إلي وقعدت على ركبتي، أما هو فكان يبدو في كل آن كأنه مستغرق في أسى لا ينقطع عن مجالدته، فكانت حركاته معتدلة ولا يتكلم إلا متمهلا، غير أنه لم يكن يتمالك أحيانا من الإتيان ببعض حركات تشذ بعنفها عن حالته العادية.
أفكان تململي في موقفي ونفاذ صبري نوعا من الفضول؟ ولو جاءني أحد وقال لي: ما لك ولهذه الأمور؟ إنك حقا لفضولي، فهل كان يمكنني أن أفسر عاطفتي بغير التحرش والفضول؟
إنني أذكر حادثة وقعت لي على الجسر الملكي رأيت فيها رجلا يهلك غرقا.
كنا رهطا من الأصحاب نتمرن على السباحة، فذهبنا تحت الجسر يتبعنا مركب فيه سباحان من متخصصي الإنقاذ، وتبعنا رهط آخر حتى بلغ عددنا الثلاثين، وأصاب أحد رفاقنا احتقان أورثه الدوار، فإذا به يصرخ مستنجدا وقد رفع يديه يلوح بهما على سطح الماء، وما عتم أن اختفى أثره، فألقينا بأنفسنا في اليم ثم عدنا بلا جدوى، وما أخرج الغريق إلا بعد مرور ساعة؛ إذ وجدت جثته عالقة تحت كومة من الأخشاب.
لن أنسى ما حييت ما شعرت به وأنا أغامر بنفسي تحت أطباق المياه، فإنني كنت أرسل أبصاري في اللجج القاتمة تدور بي بصخبها المختنق، وأذهب غائصا على قدر ما يطيق صدري كبت أنفاسي، ثم أطفو على سطح الماء لأتبادل بعض كلمات مع رفاقي الغاطسين مثلي، ثم أعود إلى الأعماق لاصطياد الإنسان الغريق، وملء قلبي الأمل والارتياع، وما كنت أتمثل يدي الغريق تقبضان علي برعشة الموت حتى أشعر بلذة يمازجها هلع لا أستطيع التغلب عليه، وطفوت راجعا إلى ظهر المركب وقد أنهكني التعب.
إن من نتائج الفحشاء - إذا هي أبقت في الإنسان على شيء من إنسانيته - أن تدفع به إلى هوس الاستطلاع، وقد تكلمت عما انتابني من هذا الهوس في زيارتي الأولى لديجنه، وسأذهب الآن في وصف الفضول إلى أبعد ما وصلت إليه.
صفحة غير معروفة