وما كانت هذه المرة الأولى التي حاول بها الناس بمثل هذه النصائح أن يفرقوا بيننا، غير أن بريجيت ما كانت من قبل لتأبه لمثل هذه المحاولات؛ لذلك صعب علي التصديق بأن هذه الرسائل وحدها قد أثرت فيها هذا التأثير، في حين أن ما انطوت عليه من نصائح كانت قد بذلت لها من قبل أيام لم نكن بلغنا السعادة التي توصلنا إليها أخيرا. وقفت أحاسب نفسي لأعلم إذا كنت أتيت في باريس أمورا توجب إدانتي، ثم تساءلت عما إذا كان السبب في هذا الانقلاب ما يطرأ على النساء من ضعف عندما يقررن اقتحام أمر فلا يجسرن على تنفيذه، أم أن هنالك ما يدعوه الإباحيون آخر مقاومة للعقائد الموروثة، ولكن بريجيت كانت قد أمضت ثمانية أيام لا تني خلالها عن التكلم عن أحلامها، وعن حياتها المقبلة بكل صراحة، وبكل إخلاص، حتى إنها أصرت على الرحيل بالرغم مني، فلا بد إذن من وجود سر في الأمر، ولكن أين السبيل إلى النفوذ إليه إذا كنت لا أتلقى جوابا على ما أوجهه إلى بريجيت من سؤال إلا على شكل لا يتفق والحقيقة؟ وما كان بوسعي أن أكذبها طالبا منها إيراد جوابها بشكل آخر.
إنها تعلن لي استعدادها للرحيل، غير أن اللهجة التي تتخذها لهذا التصريح تدعوني إلى رفض ما تعلن قبوله؛ إذ ليس لي أن أرضى بمثل هذه التضحية، وقد أصبح قبولها في عيني عبارة عن خضوع لأمر واقع، أو استسلام لقضاء لا بد منه. وقد كنت أعتقد من قبل أن بريجيت تطاوع هواها لتتبعني، فإذا هي في نظري مكرهة على القيام بما عاهدت عليه ووعدت به، وروعني أن أحمل بين ذراعي هذه المخلوقة الشاحبة لأختطفها من أوطانها، وأذهب بها إلى أمد بعيد قد يطوى مدى الحياة، وما هي بين يدي إلا ضحية مستكينة.
لقد قالت لي: إنها ستفعل كل ما يحلو لي، وما يحلو لي أن أكلف التجلد والصبر هذه القانتة الصابرة، ولأسهل علي أن أذهب ضاربا في مجاهل الأرض وحدي من أن أتحمل النظر أسبوعا واحدا إلى هذا الوجه يقنع بالشحوب سره الدفين.
ويلي! أبوسعي أن أذهب وحدي ناكصا على أعقابي بعد أن قطعت بخمسة عشر يوما أجمل مراحل السعادة؟ أني لي هذا الإقدام وأنا لا أفكر إلا في الوسيلة التي تمكنني من اختطاف بريجيت والرحيل بها؟
ومر بي الليل الطويل ولم يغمض لي جفن، حتى إذا لاح الفجر وجدتني مصمما على مقابلة الشاب الذي رأيته في المسرح، وما عرفت أكان ما يدفعني إلى ذلك حاسة غضب، أم حاسة فضول؟ وما عرفت أيضا ما أريد من هذا الشاب، ولكنني وثقت من أنني سأتمكن من مقابلته، فلا يتسنى له هذه المرة أن يتهرب من ملاقاتي.
وما كنت أعرف عنوان مسكنه، فدخلت على بريجيت أطلب هذا العنوان قائلا: إن الواجب يقضي علي بزيارة من زارنا مرات عديدة، وما كنت أخبرتها شيئا عن مصادفتي له في المسرح، فوجدتها مستلقاة على سريرها وعلى أجفانها بلل الدموع، ومدت يدها إلي قائلة: ماذا تريد مني؟
وكانت نبرات صوتها تتدفق مرارة وحنانا.
وخرجت من غرفتها بعد محادثة قصيرة مشبعة بالولاء، وقد سقط عن قلبي بعض ما يثقل عليه.
وعرفت من بريجيت أن الشاب الذي أقصد زيارته يدعى سميث، وأنه ساكن على مقربة منا، ولما قرعت بابه ملكني اضطراب شديد، ومشيت إليه كأنني أقتحم نورا شديدا، غير أنني ما وقفت أمامه حتى جمد دمي في عروقي؛ لأنه كان منطرحا كبريجيت على فراشه، ووجهه شاحب كوجهها، فمد إلي يده قائلا ما قالت هي: ماذا تريد مني؟
إن في الحياة من غرائب التصادف ما يحير العقول.
صفحة غير معروفة