ظل الطهر
على ذكر الطفولة وأيام الصغر، أقول: تحزنني رؤية علامات الشر على أوجه الأطفال والغلمان الصغار، فإنها - بالرغم من طهارة الطفولة - تلوح على أوجه الصغار كما تلوح على أوجه الكبار. وأما الطهارة التي تنسب إلى الطفولة فهي عجز الطفل عن مواقعة كثير من الشر؛ لأنه ليس عنده من القوة والدهاء والتفكير ما يعينه على ذلك. وقد تجد الطفل يتعجب من وقوع الشر من غيره ويحزن لذلك، لا سيما إذا كان الشر واقعا به، ولكنه لا يحس ما يفعله من الشر، ولا يعرف أنه شر! وهذه الخصلة موجودة في الرجال أيضا؛ فإنهم يفعلون الشر فلا ترتاع ضمائرهم، ولكن إذا فعل غيرهم الشر اهتاجت لواعجهم، وارتاعت ضمائرهم من أجل ذلك! وهذا دليل على أن الضمائر آلة من آلات العواطف والرغائب تحركها كيف شاءت.
إني أرى على أوجه الأطفال ما تكنه أخلاقهم من أوائل الجشع والبخل واللؤم والقسوة، ولكن ضعفهم وقلة مكرهم تسدل على هذه الملامح حجابا مضيئا رفرافا كالسراب. وتبعثني رؤية هذه الملامح إلى التفكير فيما يستقبل من حياة هؤلاء الأطفال الآمنين المطمئنين الضاحكين. فكأني بأوائل شرهم صارت نهاية، وبنضارتهم شحوبا، وبضعفهم الذي يلين لهم قلوبنا قوة ومكرا. وكأني بذلك السراب الرقراق الذي كان يلوح لنا في وجوههم؛ سراب الطهر والعفة، قد اختفى ولم يبق مكانه غير آثار العواطف قد ارتسمت على أسرة تلك الوجوه، فخدود شاحبة من معاناة الأقدار، وشفاه مقلصة من الضعف أو السخر والكبر، وعيون غائرة يلوح فيها بريق الشهوات، وابتسامة كلها خبث ودهاء، وجبهة قد رسم الدهر بها خطوطا، فكأنما طيات تلك الجبهة المعقدة أطلال سني العمر الماضية.
أزهار الشباب
هل تذكر طيش الحب في أول الشباب، وما كان يغريك به من نزوات وهفوات حين أفقت من غفلة الصغر، فأحسست تلك العاطفة في قلبك؟ إن الحب لا بأس به إلا إذا أغرى المرء بأعمال تزري بعقله. ولكن من ذا الذي لم ينز به الحب في شبابه نزوات التيوس أو العصافير؟! فإن طيش المحب مثل طيش العصافير في حركاتها، وإنه ليخيل له أن الحب قد أنبت في كتفيه أجنحة يطير بها إلى حيث يشاء، فيحسب أنه لو رمى بنفسه من نافذة منزله لم يسقط ولم يصبه أذى، بل يطير به الحب! ويخيل له أنه قادر على أن يقفز من شارع إلى شارع فوق المنازل من غير أن يلمسها! ويسمع المحب أنغاما وألحانا غريبة لا يسمعها غيره وليس لها وجود، ويرى أشكالا هندسية بديعة لا تسمع عنها في كتب الهندسة! ويرى أزهارا خيالية لا يعرفها الباحثون في علم النبات.
ويحسب أنه مركز هذا الوجود، وأن حبه موجود من الأزل خالد إلى الأبد، مثل جمال حبيبه. ويحسب أن هذا الوجود لو أصابه العدم، لبقي حبه مستقلا عن الوجود! وتراه يتصيد أصحابه، فيخبرهم كل خبر تافه عن حبه، حتى يتضجر جليسه، وهو لا يرى شيئا من ضجره. بل يحسب أن جليسه مصغ إليه كل الإصغاء، وأنه يجد لذة في حديث حبه كأنما هو قصيدة من قصائد النسيب والغزل، فيا بؤس من يجالس المحب!
ثم يفيق المرء من حلم الحب الذي يشبه أحلام معاقر الأفيون، فيخجل من جنون أحلامه، ويتذكر الساعات التي قضاها تحت نافذة حبيبه، والحالات التي كانت تعتوره كلما نظر إليه حبيبه نظرة غضب أو رضا، أو إدلال أو إغراء أو زجر، أو أمر أو نهي، أو تشجيع أو تثبيط، ويتذكر رسائله إلى حبيبه، وكلمات العشق التي كان يتلوها على سمعه، ويتذكر ما كان يضل عقله من المواعيد، وكلما خاف أن يفوته ميعاد من حبيبه بحث عن نعله وهو لابسه، وسأل عن عصاه وهي في يده!
شعر الألوان والروائح
الشباب كثير الألوان، جم الروائح، فهو حديقة من حدائق الربيع، وروح من أرواح الفردوس، وهو الحياة ولا حياة بعده. والألوان والروائح من أشد الأشياء إثارة للعواطف، وإني لأجد لذة في النظر إلى الألوان المختلفة؛ من الحمرة أو الزرقة أو البياض أو الصفرة أو البنفسج أو الخضرة، وأجد في كل لون معنى ولحنا من معاني العواطف وألحانها، فالألوان والروائح تبعث الذكر والأماني، ألم تر قط لونا بديعا، أو رائحة ذكية فأذكرتك حبيبا مضى، وعهدا تقضى؟ أم لم توقظ ذكرى الساعات اللذيذة، والأماني والأحلام الحلوة، التي هي جمال الحياة، حتى كأنك تسمع تغريد العصافير في صدرك، وتجد لذة ليس بعدها لذة في النظر إلى الأشياء، حتى كأن الله قد كسا وجوه الحياة بنور من نوره؟!
ولقد تنقلب الألوان في أيام الشقاء والتعاسة، فتصير جمرات مختلفة الألوان؛ فتحس لهيبها في العين والقلب. وكذلك في الروائح لذة وألم، فإني أحيانا أشم الروائح العطرية بعنف، كما يلتهم الجوعان طعامه. ولكني تؤلمني الرائحة الكريهة مهما خفيت، وأتأذى بها كما أتأذى بالخطب الجلل، وأتمنى أحيانا لو تكون الحياة في يدي خرقة أريق عليها ما أشاء من الروائح العطرية. آه، ما أجمل الحياة التي يشم صاحبها منها رائحة الفل أو الياسمين أو البنفسج!
صفحة غير معروفة