هذا المحل المشار، بدليل ما نذكره في النظير فإن الصناع إذا شخص من صنعته صورة وهيأها من مواد مختلفة، فإن صنعته تكون موجودة في ذلك المحل، بحيث لا يشك عاقل في ذلك، مع أن تلك الآلات التي هي موضوع الصنعة، لا تكون داخلة في حقيقة صنعته التي هي الترتيب والتلفيق، وكل ذلك مرئي مشاهد محقق، فكذلك ما نحن فيه بصدق رؤية الحروف مع عدم المنافاة لقدمها، وما عداها ينزل منزلة الآلات من هذا المصنوع، فليفهم ذلك ففيه غموض وقد أشار إليه الإمام أبو الحسن ابن الزاغوني١ في كتابه"الإيضاح".
ولعمري لقد اندفع بهذا التقرير كثير من كلام الأشاعرة وتلبياتهم عند العارف بمعاني الكلام ودقائقه.
بقي على هذا أن يقال، قد نقل عن مالك – ﵀ أنه قال: ليس من السنة أن يجادل عنها، إنما السنة أن تخبر بها، فإن قبل منك وإلا فاسكت.
وقد روي عن ابن عباس ﵁ أنه قال:"من أخذ دينه بالقياس ذهب دهره في الإلباس، مائلًا عن المنهاج طاعنًا في الاعوجاج".
ثم قال ابن عباس ﵄: نعرف ربنا بما عرفنا به نفسه، ونصفه بما وصف به نفسه، لا يدرك بالحواس ولا يقاس بالناس، قريب من الأشياء غير ملاصق، بعيد منها غير مفارق، تحقق بلا تمثيل، وموحد بلا تعطيل.
_________
١ أبو الحسن الزاغوني، الإمام العلامة، شيخ الحنابلة، ذو الفنون، أبو الحسن علي بن عبيد الله أبن نصر بن عبيد الله بن سهل بن الزاغوني البغدادي، صاحب التصانيف.
ولد سنة خمس وخمسين وأربعمائة، كان من بحور العلم، كثير التصانيف، يرجع إلى دين وتقوى، وزهد وعبادة.
قال ابن الجوزي: صحبته زمانًا، وسمعت عنه، وعلقت منه الفقه والوعظ، ومات في سابع عشر المحرم سنة سبع وعشرين وخمسمائة، وكان الجمع يفوق الإحصاء."سير أعلام النبلاء" (١٤/٤٨٣) .
1 / 53