أن تلك النار النبيلة المتأججة في قلبي
إنما هي انعكاس الشعاع السامي
الساطع أبدا في ديار المجد والخلود
بدت عليها آثار التعب فأحجمت عن الكلام فاحترمت سكوتها. إن قلوب الناس تميل إلى الصمت بعد تبادل الأفكار القيمة، ويخيل أن الملائكة ترفرف فوق رءوسهم. نعم خيل إلي أن أجنحة ملائكة الحب والسلام تخيم في تلك الغرفة. نظرت إليها فبدت بثوبها الأبيض كالرؤيا تتجلى في الشفق العابس وإنما يدها المستسلمة في يدي أثبتت لي حضورها الحسي. وأرسل الغروب المودع على محياها شعاعا باهتا ففتحت عينيها وحدقت في مدهوشة مستفسرة، فسطع نور عينيها العجيبتين كبرق خاطف بين أجفانها الوطفاء. وإذا بالبدر صاعدا بين الجبلين المقابلين يسكب ابتساماته على القرية الصغيرة والبحيرة الهادئة. لم أر حياتي مساء أبهى من ذلك المساء ووجها أجمل من ذلك الوجه؛ وجه الحبيبة كما كان في تلك الساعة، فشعرت بموجة حب تطفو فوق قلبي فقلت ثملا: «ماري! دعيني أعترف لك بحبي وأنا بهذا الفتون! ألا تشعرين معي بقربنا الآن من السماء؟ ألا فلتتحد نفسانا بقوة لا تسطو عليها قوة! دعيني أفض إليك بحبي. إني أحبك يا ماري كائنا الحب ما كان، وأشعر بأنك لي لأني لك.»
جثوت قربها ولم أجرأ على النظر إلى عينيها، فسحبت يدها من يدي متمهلة مترددة في البدء وبالتالي مسرعة مصممة، فرفعت طرفي إلى وجهها فرأيت عليه أمارات الألم. وبعد سكوت طويل تململت وزفرت زفرة عميقة وقالت: «كفى؛ لقد آلمتني، على أن الذنب ذنبي والتبعة علي. أقفل النافذة لأني أحس ببرد قارس كأن يدا غريبة لمستني. ابق معي، لكن لا، اذهب. وداعا، ونم نوما هادئا وابتهل إلى الله أن يشملنا برعايته. سنجتمع مساء غد، أليس كذلك؟»
أواه، أين ذهب الهناء وكيف ولت الطمأنينة؟ خرجت من الغرفة وبعثت بالسيدة الإنجليزية إليها وهمت في الظلام. مشيت طويلا على شط البحيرة وعيناي يرقبان نافذة الغرفة التي ضمتني وإياها منذ حين. أخيرا خبت جميع أنوار القصر وتوسط القمر كبد السماء وسقطت أشعته عاموديا على الأرض فبدت خطوط الشرفات والجدران من ذلك القصر كأنها أضيئت بفانوس سحري. وبقيت وحدي في الليل الأدهم: أفكاري موجعة، وقلبي سقيم، ونفسي منفردة لا يحبها ولا يريدها في العالم أحد. شمت الأرض نعشا والسماء كفنا يدور حولي، ولم أدر أحي أنا أم ميت قضى منذ زمن بعيد.
وإذ أطلت النظر إلى النجوم ذات المقل اللامعات، وهي تتم دورتها بانتظام حسبتها منثورة في الفضاء لتنير القلوب المظلمة وتعزي النفوس الآيسة. إذ ذاك فكرت في نجمين سماويين أشرقا من عيني الكونتس ماري على أفقي الحالك السواد وسجدت في فؤادي عاطفة الشكر والحنان لفتاتي العذبة وملكي الحارس الأمين.
الفصل التاسع
الذكرى الأخيرة
كانت الشمس مشرقة على رءوس الجبال وقد دخلت أشعتها من النافذة ساعة استيقظت من رقادي. أهذه هي الشمس التي شيعتها البارحة بنظرات الرجاء والغرام عندما انبسط قرصها كيد صديق يبارك اتحاد قلبينا، ثم هبطت وتوارت كمضمحل الآمال؟ ها هي الآن مشرقة تأتي إلي كطفل يهنئني بعيد ميمون. لقد عادت إلي حيويتي المعتادة وتنبهت في الثقة بالله وبنفسي، ترى أأنا هو ذاك الفتى الذي انطرح على الفراش منذ ساعات قلائل مضني الجسد خائر الروح؟
صفحة غير معروفة