فقال إبراهيم: «كلا اصعدى أنت واستريحى، ولا حاجة إلى جدل فإنى ذاهب».
ورأى صادق صحة العزم فى صوته ووجهه فأقصر آسفا.
وكان الذى دعا إبراهيم إلى الإصرار على ترك صادق، أنه خاف عاقبة اصطحابه والتقائه بتحية، فما يستطيع، ولا يليق، أن يكلفه رحلة طويلة ثم يصرفه من الباب بكلمة شكر فارغة. ولا بد أن تساله تحية عما حدثها به زوجها من أنه - أى صادق - يوشك أن يتزوج ميمى، والنساء ثرثارات، وليس أحب إليهن من اللغط بقصص الزواج والشروع فيه. وقد يحدثها صادق عن الحادثة، وعن جلسة المعادى، ولا يبعد أن يروى الأمر على وجهه الصحيح وأن يتحرى الدقة، فيذكر أنه وجدهما معا فماذا عسى أن تظن زوجته إذا علمت أنه يتواعد مع ميمى، ويلقاها ويذهب بها إلى هنا وههنا ولا يخبرها بشىء من ذلك؟ إن هذه تكون صدمة جديدة تردها إلى الوجوم القديم، وتقوى سوء ظنها به، وقد تدفعها إلى اليأس منه، أو من قدرتها على الاحتفاظ به، وليس مما يقوى على احتماله أن يعانى هذه المحنة مرة أخرى، وأن يفقد ثقة تحية وحبها على الأرجح، وسيفقد ميمى يوم تعرف ما تبطن لصادق من الحب، فإذا ترك صادقا يصاحبه فإنه خليق أن يفقد المرأتين جميعا. وهب صادقا لم يقل شيئا، وتحية لم تسأله عن شىء، فإنه حقيق أن يبدو بينهما مرتبكا مضطربا، فيثير الوساوس أو الشكوك فى نفس تحية، فالخير كل الخير، أن يبقى هذا الشاب حيث يشاء إلا معه، وأن يلقى من شاء غير تحية، على الأقل إلى حين.
9
وفى تلك الليلة خلا اثنان بنفسيهما، أستاذ وتلميذته، كل على حدة.
فأما التلميذة فميمى. ذهب بها صادق إلى بيتها، وصعد معها فتركته مع أمها ريثما تغير ثيابها وتصلح من شأنها، ولكنها لم تغيرها ولا كانت بها حاجة إلى ذلك. وإنما قعدت على كرسى بين السرير والمرآة وقالت لنفسها: «لست أستطيع أن أجرد من نفسى شخصا ثانيا - كما يصنع إبراهيم - ولكنى أستطيع أن انظر إلى خيالى فى المرآة».
وأقبلت على الخيال البادى فى صقال المرآة تتأمله، وتميل وجهها يمنة ويسرة وتسوى شعرها ببنانها، وأخرجت (الأحمر) فمرت به مرا خفيفا على شفتها السفلى ثم أطبقت العليا عليها، وتبسمت إذ تذكرت أن إبراهيم كان إذا بلغ بها مأمنا أشار إلى ثغرها، فتخرج منديلا وتبله بريقها، بطرف لسانها، وتمسح هذا الأحمر الذى لا يطيقه إبراهيم، وإن كان يغضى عنه فى الطريق، ولا يأبى عليها زينته وهى غادية أو رائحة. وتساءلت ميمى أتراه يخشى أن يبقى بفمه أثر منه؟ ونفت ذلك. وقالت إن تحية لا تصبغ شفتيها بهذا الأحمر، ولا تمسح وجههابالمساحيق، بل ليس فى بيتها شىء من هذا.
وعكفت على إصلاح هندامها وهى تحدث نفسهما أن إبراهيم ينطوى لتحية على حب عميق متغلغل فى شعاب نفسه، إلا أنه ساكن لا يثور ولا يفور، وأنه لم يرفعها - هى - هذا المقام فبقيت فى منزلة الصديقة ليس إلا. نعم أقطعها من نفسه مكانا كريما، ولكنه أبى أن يجاوز هذا الحد الذى خطه من أول يوم، وأولاها وده وعطفه، وآثرها على غيرها - وكان لها أبا وأخا وصاحبا - غير أنه فى سنوات طويلات المدد لم يجر لسانه - ولا مرة واحدة - بذكر الحب، ولم يقل لها قط إنه يحبها، وزجرها مرارا عن اللغط بهذا اللفظ. حتى فى اللحظات القصار التى يسهل فيها، من فرط النشوة، وطيب المتعة، أن تنتزع العاطفة اللجام وتنطلق به جامحة، كان الزمام لا يفلت من أصابعه، والرشد لا يخرج من كفيه، والعقل لا يفقد سلطانه وسيطرته، واللسان لا يجرى إلا بقدر.
وتذكرت كيف أنه كاد مرة ينسى نفسه، ويعدو ما خط ورسم، فقد رق حتى قارب أن يذوب، ثم هاجه لما به ما لا تدرى، فانتفض وانقض عليها يطوقها، ويعصرها، ويهصرها، كأنما يريد أن يشق بها ضلوعه إلى قلبه وهى تلين له فى العناق، وتئن من طيب ما تجد وألمه، ويلثم فاها ووجنتيها وعينيها، وجبينها ، وشعرها - ويشمه أيضا - ويدفع راحتيه متحسسا، ويملأ قبضته بلحمها كأنما يريد أن يقتطع منه، وهى مدار بها كالمسحورة أو المخمورة من دهشة المفاجأة وسرعة التحول من اللين إلى العنف، وحلاوة الأخذ بقوة، ولسع الرغبة المضطرمة، وتود لو مضى إلى ما يشاء من مدى، وتشفق أن لا يفعل، وترجو أن يطول أمد النشوة. وإذا به يدفعها عنه فجأة، كما جذبها فجأة، وينأى عنها وصدره كالخضم مضطرب، ويقول بجهد واضح: «كلا. ما ينبغى هذا فلست لى، ولا أنا لك، وسنندم - كلانا - إذا لم نرشد».
ومر أمام عينها - كشريط السينما، ولكن كخطف البرق - كل ما كان بينها وبينه، ولم يسعها إلا أن تعترف بأنه أمتعها ولم يحرمها، كما قال لها مرة وهو يضحك: «إلا استيفاءات يتم بها (المحضر)، ولا يعد ناقصا بغيرها على حد تعبير الشرطة».
صفحة غير معروفة