وكانت هذه العبارة أقوى حججها، فلهج بها فى سره، وصار يقول لنفسه: «ومالى أنا على كل حال؟» غير أنه لم يقتنع، فقد كان يؤثر - ويعنيه - أن لا تتعرض لخلاف مع أهلها بسببه.
وحدث نفسه وهو يرى طلاقة وجهها وإقبالها عليه، وسرورها به، أنه لا يزال عاجزا عن فهم «هذه المرأة».. كانت غاضبة ثم رضيت. ففيم كان الغضب؟ وفيم كان الرضى؟
3
وكانت ميمى فتاة يسعها أن تكون مستقلة، وسيدة نفسها، وأمرها جميعه بيدها، ولكنها نشأت على ما «كان» عودها أبوها، من أن تكون «بنت ناس» ومؤدبة مهذبة. والأدب والتهذيب فى عرف «أبى حمزة» كما يكنى نفسه، أن تلزم بيتها لا تريمه، فإذا احتاجت أن تخرج لحاجة لها فليكن ذلك بصحبة أمها أو إحدى قريباتها العجائز، أو «ولد» من ذوى قرابتها. والشرط بعد ذلك أن يكون الخروج نهارا والإياب قبل المغرب، وعليها أن لا تبدى زينتها فى الطريق أو من النافذة، وأن تكون فى كل حال متجملة محتشمة.
وكان أبو حمزة يريد البنين. فلما لم تجئه امرأته - فى عشر سنوات - بغير هذه الفتاة، ضجر ونفد صبره، فطلقها وترك القاهرة وعاد إلى قريته - على مقربة من دمنهور - واتخذ زوجة غيرها ولدت له ما لم يكن يبغى من بنات وفوق ما كان يبغى من بنين، ولزم القرية إلا فى بعض الأعياد والمواسم الكبرى. ولكنه لم يهمل مطلقته وفتاته، فكان يرسل إليهما نفقة كافية من الأرز والزبد والقمح والجبن وما إلى ذلك. ولا يقتر على ابنته «القاهرية» فيما يتطلبه تعليمها وتثقيفها. ولا ينفك معنيا بها وبأمها، ومتعهدا لهما «بالمراسلة»، فما طلق امرأته كراهة لها، بل كراهة لبقائها فى عصمته وهو مع غيرها فى بلد ناء، فأبرأ ذمته وأرضى شعوره بواجبه لنفسه ولبنته، ولما يفهم من معنى «العرض» بهذه الطريقة التى لا تخلو من غرابة.
ولم يكن أغرب منه إلا مطلقته، فقد حرصت على أن يكون سلوكها حياله وهى مطلقة كما يجب أن يكون وهى زوجة. كانت رسائله إليها فى منزلة الأوامر التى تطاع ولا تعصى فتفعل ما يأمر، وتتقى ما ينهى عنه، أو ما كان خليقا أن ينهى عنه لو كان معها.
وكانت تتوخى فى تربية «ميمى» ما تعلم أن فيه مرضاة أبيها. وكانت «ميمى» تؤثر أن تدرس الطب، ولكن أباها أبى ذلك كل الإباء. فلما ثقل عليه إلحاحها وضاق صدره بلجاجتها، قطع عنها نفقة التعليم. وكان لها من صلابته وعناده حظ غير ضئيل، فلما رأت منه ذلك تحولت عن الطب إلى مدرسة للمعلمات، نزوعا منها إلى الاستقلال والاستغناء عن والد يغضب فيقطع النفقة. فجفاها أبو حمزة زمنا، ثم غلبه الحب والحنو فعاد إلى الرضى وألقى لها الحبل على الغارب، فصارت معلمة فى وسعها - كما أسلفنا - أن تستغنى عن معونته، إلا أنها ورثت عن أمها لينها ووفاءها فبقيت على توقيرها له.
ولم تكن تخالط إلا ذوى قرابتها وقليلين جدا من المعارف من بينهم أسرة إبراهيم. وكان لها ابن خالة اسمه «صادق» لم يكد يفرغ من التعليم الابتدائى حتى مل وكف، وعجز أبوه - وكان فى سعة - عن كبحه فرمى إليه بالزمام، وأطلق له، غير مخير، أن يصنع ما بدا له، فصار نهاره ليله، وليله نهاره، وأمله المفرد ومطمعه الوحيد، أن يكون «منولوجست» مشهورا يذيع «قطعه» فى الراديو، وراح على سبيل التمهيد يجمع حوله لفيفا من أترابه وأشباهه العاطلين، وسربا من بنات الحى ويقضى الوقت مع هؤلاء وأولئك فى التدرب. وكانت له ملكة فى الزجل، وطبع فى الموسيقى، ولكن التحصيل ينقصه فبقى حيث هو، لا يبلغ شيئا، ولا يدرك غاية، ولا يزيد على أنه عاطل.
وكان صادق هذا يتودد إلى ميمى، وهى لا ترى فيه إلا أخيب الخياب وأفشل الفشلة، ولكن زرايتها به كانت لا تمنع أن تشعر بمزاياه وإن كان التدليل قد أفسدها أو حجبها وحال دون الانتفاع بها. وكان طويلا نحيفا، وفى نظرته شدة، وفى مشيته خفة كخفة القط. وكان أكثر ما يروعها - ويرعبها - سكونه وقسوته واستخفافه بكل شىء، وسخريته من كل شىء. وكانت تشعر - حين تكون معه - أنه يجذبها ويدفعها فى ان معا. يجذبها بقوة الشخصية وسحر النظرة الثابتة الفاحصة، ويدفعها وينفرها لإثارة شكوكها فى صدقه وإخلاصه وبما يبديه من السخر من كل ما تعده جليلا، والتهكم على كل ما نشأت على الحرص عليه والتعلق به، من مبادئ وعقائد وتقاليد. وكانت ربما كبر فى وهمها أنه ليس إلا وحشا فى ثياب إنسان، وكان هذا يقلقها منه - وعليه - وكثيرا ما أفضت إلى إبراهيم ببواعث قلقها هذا، فكان يسرى عنها ويقول لها: «هونى عليك. فما الإنسان إلا حيوان، وكلنا ذلك الحيوان إذا أردت الحقيقة. وليست المدنية سوى صقل لا يمنع أن الحيوانية - وهى الأصل - كامنة متحفزة للظهور على الرغم من كل هذا الصقل إذا أتيحت لها الفرصة، أو استثارها مستثير قوى. وما زالت أساليبنا فى حياتنا هى أساليب الحيوان، أو الوحش الضارى، ولكنها ملطفة مهذبة مرققة، أو قولى إنها «منظمة» بالقوانين، والتقاليد والعادات المرعية، ومن هنا تخفى حقيقتها، ومن هنا يروعك صادق لأن فيه تمردا على الظواهر والطلاء، وإخلاصا للأصل».
وكانت ميمى إذا سمعت منه هذا التأويل تهز رأسها غير مقتنعة، أو مطمئنة، وهو الأصح، وتقول له: «إن دأبك أن تنظر إلى الأمور هذه النظرة الهادئة المريحة وأن تحاول أن تنصف غيرك. ولكن ألا يخطر لك أنى أنا أيضا جديرة بالإنصاف؟»
صفحة غير معروفة