وكانت جالسة وعينها إلى النافذة، فالتفتت إليه كأنما أيقظها صوته من حلم، والتقت عيونهما. وقالت: أنا؟ لا أدري! إني لم أكن مصغية.
فاضطرب شيء في صدره وخفق قلبه خفقة عطف مضطرم وشعر كأن بها حاجة إلى حمايته، واستغرب من نفسه هذا الإحساس الذي لا مثير له ولا موجب لنشوئه فابتسم وقال: ألم أقل لك إن المرأة يعجزها أن يكون إحساسها شاملا ونظرتها جامعة وروحها واسعة محيطة؟
ورأها مصغية إليه فمضى في كلامه: أنا مثلا - ولست أعني نفسي على وجه الخصوص، ولكني أعني الرجل على العموم - أستطيع أن أفتح قلبي للطبيعة كلها بكل ما اشتملت عليه وأن أغمر كل مظاهرها بحبي، حتى هذا العنكبوت الذي يخيفني في العادة والذي أكره أن أرى نسجه في زوايا النافذة أو أركان الغرفة، يفيض قلبي ويتفتح. ولكن المرأة شيء آخر. لم ترزق هذه السعة الروحية. نعم قد تحس أحيانا بشوق إلى أن تضم الكون كله بين ذراعيها. ولكن هذا لماذا؟ لأنها تحب إنسانا معينا لا ترى سواه ولا تحس إلاه؛ والكون كله مختزل في شخصه. وليس لشيء موجود منفصل عنه؛ فهي إذا أحبت الطبيعة فإنما تحب فيها هذا الرجل الذي يملأ دنياها ويستغرق عالمها.
فأرخت شوشو عينها هنية ثم رفعت إليه وقالت: وإذا كان الرجل هو الذي يحب؟ إذا كنت أنت مثلا هذا الرجل؟
فاضطرب وتدافعت العواطف في صدره، وأحس الندم يعض قلبه، وخيل إليه كأنه يرى وجه زوجته التي ماتت منذ سنوات، يطالعه من ظلمة الماضي الدفين ويلومه ويتهمه - يتهمه؟ لماذا؟ وكأنه يسمع صوتها يقول معنفا: «كيف يمكن أن تحب ماري»؟ وغاب الوجه واستتر ولم يبق إلا شوشو تنظر إليه بعينين تحلمان، وابتسامة فيها شيء من المرارة، ماذا جرى له؟ أين ذهب إشراقه؟ ماذا فعل الله بصباحته؟ إن هذه الفتاة عجيبة! وها هي ذي تومض عينها إيماضة خبيثة كأنما يسرها ما تقرؤه في وجهه من الاضطراب! ما لعينها متعلقة بعينيه؟ أهي ناظرة إليه؟ كلا! إنها كالتي ترى شيئا هو أحلى وأعذب من كل حقيقة منظورة.
ونهض وقال: أي سؤال هذا يا شوشو؟
فنهضت مثله وقالت: أهو سؤال غريب غير جائز؟
وكان يمشي في الغرفة فلم يفتح الله عليه بخير من: كلا. لا غرابة. إني جائع جدا ولست آتيا هنا لأصوم.
فانفجرت ضاحكة وقالت: ألا تزال ملتحفا بكبريائك؟
فلم يلتفت إلى هذا ودنا منها ووضع يمناه على كتفها وقال: اسمعي ياشوشو. لقد قضيت هنا ليلتين ولم أجاوز عتبة الباب إلا دقائق أمس. فما العمل؟ لست أراني أطيق هذا الحبس فقولي لي أين أذهب. ولكن بالله عليك لا تقذفي بي في وسط جحافل من أجلاف الريف..
صفحة غير معروفة