وجاء في العهد القديم أن الخليل قدم العشر لصاحب بيت المقدس «ملكي صادق»؛ لأنه سادن الإله العلي في محرابها الأعلى.
نظام واحد في مدن القوافل يدل عليه هذان التاريخان المنفصلان.
وتتوالى الدعوات النبوية بعد ذلك على حسب المكانة بين مدن القوافل، وعلى حسب المكان من بقاع الهلال الخصيب والجزيرة العربية.
فلما بدأ تاريخ الدعوة النبوية من أور إلى آشور، إلى بيت المقدس، إلى مدن الجنوب، كانت هذه المدن الجنوبية على غايتها من الازدهار، وعلى غايتها من الفساد، وكان لها دورها الذي انتهى بكوارث الزلازل أو الهزيمة.
وبقيت شواهدها في خرائبها تنطق بما كان بينها من صلات ومعاملات.
ففي البتراء محاريب الحجارة السود التي تساقطت من السماء، وفيها هيكل البنت أو الربة المصرية «إيزيس»، وما إيزيس؟ أتكون هي العزى التي عبدت زمنا في الجنوب؟
تكون أو لا تكون؛ فالرواة الذين أرخوا ظهور الأصنام في الكعبة المقدسة بمكة لم يدرسوا الآثار المصرية، ولم يدرسوا الأحافير التي درسها العصريون في القرن العشرين، ولكنهم أرخوا الأصنام فقالوا: إن سيد مكة في زمانه «عمرو بن لحي» سافر إلى الشام وعاد منها بطائفة من الأصنام، وإن أبناء إسماعيل بالحجاز تعودوا عبادة الأنصاب؛ لأنهم كانوا يحملون معهم الحجارة المقدسة للتبرك بها كلما ابتعدوا من الحرم، ثم انتقلوا من التبرك بها إلى عبادتها مع طول الزمن، وكانت روايتهم هذه مصدقة لما فعله أتباع إبراهيم وموسى وسائر الأنبياء في الأماكن الأخرى، فهكذا تحولوا من عبادة الإله الواحد إلى عبادة الأنصاب والتعاويذ والتماثيل والطرافين. •••
وسواء صح هذا كله أو لم يصح، فالصحيح الذي لا شك فيه أن الصلة الدينية والثقافية واللغوية والتجارية لم تنقطع قط بين النبطيين والمكيين، وأننا لو سلكنا التاريخ الديني طردا وعكسا، ثم سلكناه عكسا وطردا، لما كان له من مسلك أقوم وأثبت من بدايته ونهايته بين «أور» في جنوب العراق ومكة في وسط الحجاز!
وإذا كان التاريخ يرتسم على هذه الصورة معقولا موافقا للواقع، أو ما ينبغي أن يقع، فلا وجه للشك فيه، بل الوجه كل الوجه أن نلتمس من طريقه هذا أسباب اليقين.
الفصل الثاني عشر
صفحة غير معروفة