وكان من الطبعي أن تثير هذه الفتوى خصوم الشيخ؛ إذ رأوا فيها تنقصا لمقامات الأنبياء والأولياء والصالحين، فرفعوا الأمر إلى السلطان، وهذا أصدر سنة 726 مرسوما باعتقال صاحبها.
وسر الشيخ حين أخبر رسميا بهذا المرسوم، وقال: أنا كنت منتظرا لذلك، وهذا فيه خير كثير ومصلحة كبيرة، وفعلا اعتقل بقاعة بالقلعة بدمشق، وأقام معه أخوه زين الدين يخدمه بإذن السلطان، ولكنه منع من الفتيا.
ولم يقف الأمر عند هذا، بل حبس بسجن الحكم جماعة من أصحابه بأمر قاضي القضاة الشافعي، وذلك بمقتضى مرسوم نائب السلطنة وإذنه له بأن يعمل في أمرهم ما توجبه الشريعة، فعذر بعضهم ثم أطلقوا، سوى تلميذه الأشهر شمس الدين محمد ابن قيم الجوزية، فإنه حبس بالقلعة أيضا، وعلى هذا سكنت القضية إلى حين.
17
وأقبل الشيخ الصابر الراضي بقضاء الله وقدره على عبادة الله وقراءة كتابه والتأليف والرد على مخالفيه، كما كتب في المسألة التي حبس بسببها شيئا كثيرا، وكان فيما كتبه فيها سنة 728 رد على ابن الإخنائي المالكي، وقد استجهله في هذا الرد وبين له أنه قليل البضاعة في العلم، كما يذكر ابن كثير.
فكان هذا سببا في أن رسم السلطان بحرمانه من الكتب وأدوات الكتابة، فأخرجوا في تاسع جمادى الآخرة من هذا العام كل ما كان عنده من الكتب والأوراق والدواة والقلم، وبذلك منع من الكتابة والمطالعة.
وفي هذا يذكر صاحب «وفيات الوفيات» أنه كتب عقيب ذلك بفحم يقول: إن إخراج الكتب من عنده من أعظم النقم، ثم بقي أشهرا على ذلك، وزاد إقباله على التلاوة والعبادة والتهجد حتى أتاه اليقين، فلم يفجأ الناس إلا نعيه؛ إذ ما كانوا علموا بمرضه عشرين يوما.
وفاته
وأخيرا، آن لابن تيمية العالم العابد الأواب، والمجاهد في سبيل الدين والوطن، وفي سبيل كتاب الله وسنة رسوله، أن يلقى ربه الذي يعلم السر وأخفى، والذي لا يضيع أجر العاملين.
آن له أن ينطلق من سجنه، وأن يرتاح من خصومه، وأن يترك الدنيا وما فيها من متاع وزينة وجاه يتقاتل الناس من أجله، وقد كان ذلك كله على حبل الذراع لو أراد، ولكنه صدف عن كل ذلك، وقصر حياته على إقامة الدين ونشر العلم ابتغاء رضوان الله وحسن مثوبته.
صفحة غير معروفة