ابن تيمية: حياته وعصره، آراؤه وفقهه
الناشر
دار الفكر العربي
الظنون، ويقبلون عنهم الأقاويل؛ فكان قوله فيهم يتفق مع ذلك كله، ذلك بأنهم كتموا أمورهم وأسروا في أنفسهم وجماعاتهم ما لا يبدونه، وبالغوا في الحرص والكتمان، وكانوا يدبرون التدابير لاغتيال الزعماء والكبراء من أهل الجماعة الإسلامية، وظهرت آثار ذلك منهم في القرن السادس والسابع وتسامع الناس به، ولم يعد أمره خفياً، وكانت المعركة قائمة مستعرة الأوار بين أهل الإسلام وحملة الصليب، فكان للظن ما يسوغه، ويسهل قبوله.
٦- خاصم ابن تيمية كل هؤلاء وليس الغريب أن يكون له من بينهم قادحون، يورثون قول السوء فيه لأخلافهم، بل الغريب أن يستمر في دعوته وتأليهم عليه من غير خوف، وليس الغريب في أن يقضي سنين في غيابات السجن، بل الغريب ألا يعتدوا عليه بأيديهم وسيوفهم.
وما السبب في أنهم لم يمدوا أيديهم بالأذى البدني إلا مرة واحدة أثار الصوفية فيها العامة في مصر، وهو يلقي درسه، فامتدت بعض الأيدي إلى جسمه بالأذى، وسرعان ما ارتدت كلية إلى صاحبها.
السبب في ذلك أنه كان رجلاً مخلصاً ابتدأ حياته محبوباً من الكافة، وكان من الواضح للعامة والكافة إخلاصه، فهو الفقيه العالم الذي يجاهد بسيفه في سبيل الله، ولم يقتصر على الجهاد بعلمه وقلبه ولسانه، بل جرد السيف لقتال التتار، وكان شجاعاً في ميدان القتال، كما كان شجاعاً في ميدان العلم والسياسة، ذهب على رأس وفد من دمشق يدعو قازان ملك التتار، إلى منع العبث والفساد، وخاطبه بقلب جريء؛ ولم يتردد في أن يصف أعمال ذلك الملك العسكري القاسي في جبروته بوصفها الحقيقي.
وكان مع العامة درعاً حصينة في كل بلاء ينزل بهم ينافح عنهم بلسانه وقلمه وسيفه، ويشاركهم في ضرائهم، فكانت القلوب تصغي إليه، والأفئدة تهوى نحوه، فسهل ذلك قبول قوله، وإن كانت فيه مجاهرة بمخالفة المألوف المعروف عند العلماء، فكانت أعماله شاهدة بسلامة دينه، وقوة يقينه؛
8