ابن تيمية: حياته وعصره، آراؤه وفقهه
الناشر
دار الفكر العربي
عن المؤذين، بل يدافع عنهم ولا يمكن أحداً من رقابهم، ويرفقاً من آذوه بأحسن القول ليصفح عنهم؛ حتى شهد للشيخ أعدى الأعداء، بأنه أتقى الأتقياء وأصفى الأصفياء.
٨٢- وبعد أن أدى رسالته في مصر كان حقاً عليه أن يعود إلى الشام؛ ولكنه لم يعد، بل بقى يجاهد فيها، حتى تهيأت له الفرصة أن يعود إلى الشام لا ليستنيم إلى الراحة، ويركن إلى القرار؛ بل يعود مجاهداً حاملاً السيف، يحمله اليوم، وهو كهل تجاوز الخمسين، بعد أن حمله شاباً في حدود الأربعين.
ذلك بأنه في شوال سنة ٧١٢ قد أعد السلطان الناصر جيشاً كثيفاً لملاقاة التتار لما ترامى إليه أنهم قصدوا الشام ليزعجوا الآمنين؛ ويعيثوا في الأرض مفسدين وأراد أن يصحبه ابن تيمية في ذلك الجهاد، وما كان الشيخ ليتلكأ عن الجهاد، أو يتأخر؛ فركب السلطان مجاهداً مدافعاً عن الشام، لا عائداً إلى أهله مستنيماً الراحة بينهم.
خرج الشيخ من مصر بعد أن أقام بها أكثر من سبع سنين، وضعه أهلها فيها في قلوبهم، وإن ناله أذى فليس منهم بل من حساده والمنافسين له، ولما هم بعض من الشعب بإيذائه وقفت الجموع الغفيرة تنتظر الإشارة لتنقض على من يعادونه ليجعلوهم عبرة المعتبرين.
وصل الشيخ رضي الله عنه إلى دمشق، في مستهل ذي القعدة سنة ٧١٢، وقد خرج خلق كثير لتلقيه، أُسروا بقدومه وعافيته ورؤيته حتى إن النساء خرجن أيضاً لرؤيته.
وكان كشأنه مصدر الأمن والاطمئنان لأهل دمشق، فإنه ما إن خرج من مصر، حتى ترامت الأخبار برجوع التتار ناكصين على أعقابهم لا يلوون على شيء، ولذلك ترك الجيش وذهب إلى بيت المقدس، وأقام فيه أياماً ثم اتجه من ذلك إلى دمشق فوصل إليها في أول ذي القعدة كما بينا.
٨٣- أقام الشيخ بالشام واستقر به النوى، ولقد قال ابن كثير في أحواله
76