ابن تيمية: حياته وعصره، آراؤه وفقهه
الناشر
دار الفكر العربي
٢- ولقد أدته بحوثه ودراساته للثروة الفقهية والعقلية التي كانت بين يديه ميراثاً عن الأسلاف إلى أن يجعل من نفسه حاكماً على متخالفها؛ قاضياً في الآراء المختلفة في قضاياها، ولقد سار في الحكم عليها سير القاضي العادي تسيره المقدمات ولا يسيرها، وتوجهه البينات ولا يوجهها، وما كانت بيناته إلا كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وآثار الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين، وما كان منهاجه إلا منهاجهم في أقضيتهم وأحكامهم؛ فما يجده سائراً مع الكتاب والسنة وآثار الصحابة أيده ونادى به وما يجده مخالفاً لها جاهر ببطلانه أياً كان قائله، ومهما يكن ناصره؛ فتحركت بذلك الطوائف المعتنقة لهذه الآراء التي يهدمها - لمنازلته ومناهضته ورميه بالشطط ومجاوزة الحد.
٣- وإنه لم يقتصر على الفروع يقضي فيها، ويحكم على الآراء المختلفة بشأنها، بل تكلم في مسائل من علم الكلام، فتكلم في خلق القرآن؛ وتكلم في قدرة الإنسان وإرادته بجوار قدرة الله تعالى وإرادته؛ وهي المسائل التي أثارها الجهمية والقدرية في الماضي، وتكلم في المشتبهات من آيات الصفات؛ ووصف الله سبحانه وتعالى بالاستواء، وقد خص هذه المسائل بطريقته غير متقيد إلا بالكتاب والسنة ومناهج الصحابة وكبار التابعين، وبحكم العقل المستقيم، فلم يتقيد برأي من جاء بعدهم أياً كانت مكانته العلمية، ومنزلته التاريخية. تخالف في ذلك أبا الحسن الأشعري، ومكانته بين العلماء مكانته، وأتباعه كثيرون، بل هم الجمهرة العظمى من العلماء في عصره؛ ورمى الأشاعرة والماتريدية بأنهم في مسألة الإرادة جهمية، فعندئذ تصدى له الأتباع مجاهرين بعداوته، ورموه بالشطط والخروج والضلال، وكانت بينه وبينهم حرب عوان، نال منهم بالقول والبرهان، ونالوا منه بالزج في غيابات السجن، وتأليب ذوي السلطان.
٤- ولم يكتف بأن يثير عليه خصومه من الفقهاء والمتكلمين فقط، بل أثار صوت الحق الذي كان ينطق به طائفة أخرى أشد لجباً، وأقوى على العامة سلطاناً؛ تلك هي الصوفية جاهر بمخالفتها، وندد بطرائقها؛ وأعلنها عليهم حرباً
6