ابن تيمية: حياته وعصره، آراؤه وفقهه
الناشر
دار الفكر العربي
قطعة قطعة أخذ العلماء يفدون إلى القاهرة أفواجاً، ويأزرون إليها ليجدوا الحماية في ظل المسلمين فيها، وحكامها الذين كانوا يحسنون ضيافة العلماء وإيواءهم، ويجرون الأرزاق عليهم، ويحبسون الأحباس لهم.
ولما أغار التتار في الشرق، واستولوا على المدائن الإسلامية يعيثون فيها فساداً، وانسابوا في الدولة الإسلامية حتى سقطت حاضرة الخلافة في أيديهم فر العلماء بعلمهم إلى دمشق، ومنهم من اتخذها مستقراً ومقاماً، فوق ما كان لها من مكانة علمية ذاتية، ومنهم من اجتازها إلى مصر، حيث البعد عن غارات التتار وغيرهم.
٢٦- كانت دمشق إذن في عهد ابن تيمية عش العلماء، ولهذا كانت أسرة ابن تيمية من الأسر التي آوت إلى ذلك العش الكريم واتخذت لها مكاناً فيه، وأعطاها الحكام حق العلم جعلوها في الذروة والسنام.
وقد كان في دمشق مدارس للحديث كان يحدث فيها بأحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم أمثال النووي وابن دقيق العيد، والمزي، والزملكاني يدرسونه دراسة فاحصة لرجال الأسانيد، ولمتون الحديث مع موازنة المرويات بعضها ببعض، وقد تجمعت الأحاديث ودونت، فكانت الدراسة عن بينة واستقراء جامع، وفحص عميق، وقد زخرت المكاتب بالكتب الضخمة التي أنتجتها الدراسة في هذا العصر، حتى إن الإنسان ليقرأ الباب من الأبواب، فيجد الأحاديث الواردة فيها مجتمعة كلها، غريبها وحسنها، وصحيحها وضعيفها مع التنبيه على مراتبها، ومتوافقها ومتعارضها، فيسهل على الدارس طلب الحق في الموضوع بأيسر كلفة، وأقل مجهود، مع عقل مستقيم، ومنطق سليم مقيد بقيود الأصول والتخريج والاستنباط.
وكان بجوار مدارس الحديث مدارس الفقه، فهذه مدارس للفقه الحنبلي، وتلك مدارس للفقه الشافعي، وقد خص آل أيوب المدارس الشافعية بفضل من العناية، فقد كان صلاح الدين رضي الله عنه شافعياً متعصباً للمذهب الشافعي، فأعلى ذلك المذهب في دمشق والقاهرة.
٢٧- وكان بجوار دراسة الفقه والحديث كانت دراسة العقائد، وقد بالغ
24