ولا أدري ما يفكر فيه حول هذا البرهان، وقد يجب وجود روح هندسية لتذوقه، وأعترف بأنني نقلته مسرورا لما وجدت من طعم كثير على ما فيه من تطويل، ثم إن مما لا ريب فيه أنه كان يعلق أهمية كبيرة على ابن سينا، فقد دعاه الشهرستاني، الذي كرره مع تلخيص القسم الأول منه ب «البرهان القاطع»؛ ولذا فإن لنا عذرا في إيراده.»
وقد أتبع ابن سينا هذا الدليل الطويل بآخر أقصر منه كثيرا على أنه وجه آخر له، واليوم عادت النفوس غير متعودة جفاء البرهنة السكلاسية، فقد يبدو الشكل الآتي للبرهان أحسن من ذاك. قال ابن سينا: «ولنا أن نبرهن على هذا ببرهان آخر، فنقول: إن القوة العقلية هي التي تجرد المعقولات عن الكم المحدود، والأين، والوضع، وسائر ما قيل، فيجب أن ننظر في ذات هذه الصورة المجردة عن الوضع كيف هي مجردة عنه، هل ذلك التجرد بالقياس إلى الشيء المأخوذ منه، أو بالقياس إلى الشيء الآخذ؟ أعني أن هذه الذات المعقولة تتجرد عن الوضع في الوجود الخارجي أو في الوجود المتصور في الجوهر العاقل، ومحال أن يكون كذلك في الوجود الخارجي، فبقي أن تكون إنما هي مفارقة للوضع والأين عند وجودها في العقل، فإذن إذا وجدت في العقل لم تكن ذات وضع، وبحيث تقع إليها إشارة تجري أو انقسام أو شيء مما أشبه هذا المعنى، فلا يمكن أن تكون في جسم.»
وقد أضاف المؤلف إلى ما تقدم قوله: «وأيضا فإنه قد يصح لنا أن المعقولات المفروضة التي من شأن القوة الناطقة أن تعقل بالفعل واحدا واحدا منها غير متناهية بالقوة، ليس واحد أولى من الآخر. وقد صح لنا أن الشيء الذي يقوى على أمور غير متناهية بالقوة لا يجوز أن يكون محله جسما ولا قوة في جسم.»
وخلود النفس نتيجة مباشرة لروحانيتها ، وبما أن النفس العاقلة غير مرتسمة في البدن، وبما أنها جوهر روحاني مستقل ليس البدن سوى آلة له، فإن زوال هذه الآلة لا يصيب هذا الجوهر. وبما أن النفس - عند اتصالها بالعقل الفعال - تدرك بذاتها من غير احتياج إلى أعضاء، فإن زوال هذه الأعضاء لا يمكن أن يضرها، وهذه النتائج واضحة،
28
ثم إن ابن سينا هو الآن أقل إقبالا على إثبات خلود النفس العاقلة مما على البحث عن وجه تعلقها بالبدن.
وقد قال ابن سينا
29
بثلاثة أنواع للتعلق، وهي: تعلق المكافئ في الوجود، وتعلق المتأخر، وتعلق المتقدم، فإن كان تعلق النفس بالبدن تعلق المكافئ، وكان هذا التعلق ذاتيا، فإن كلا منهما يضاف إلى صاحبه إضافة ذات، ولا يكون في الحقيقة جوهران، بل جوهر واحد، وهذا باطل، وإن كان هذا التعلق عرضيا فقط، فإن أحد الاثنين لا يزول بموت الآخر، بل يكون هناك جوهران: البدن والنفس، يمكن أن يوجدا انفرادا،
30
صفحة غير معروفة