وكان إخوان الصفا قد عدوا سبع قوى للنفس الحيوانية، فكان منهاج هؤلاء الموطئين أقل بساطة في هذه النقطة من منهاج العالم، وقد يكون لنا هذا سببا للاعتراف هنا بوجود قوة للتكثيف في ابن سينا، يظهر أنها إحدى المزايا المهمة في أهم فلاسفة العرب، وإليك قوى النفس النباتية في مذهب إخوان الصفا:
3 «قوى النفس النباتية سبع، وكل قوة من هذه تفعل شيئا خلاف ما تفعل القوة الأخرى، وهذه القوى هي: القوة الجاذبة، ويقوم فعلها على جذب عصارات الأركان الأربعة، ومصها لطينها وما فيها من الأجزاء المشاكلة لنوع نوع من أصول النبات، والقوة الماسكة، وتمسك لها ذلك، والقوة الهاضمة، وتنضج لها ذلك، والقوة الدافعة، وتدفع ذلك إلى الأطراف، والقوة الغاذية، وتغذي النبات، والقوة النامية، وتقوم بإنماء النبات وزيادته، والقوة المصورة، وتصور النبات بأنواع الأشكال والأصباغ.»
وتقوم خصائص النفس الحيوانية على كونها تدرك الجزئيات وتتحرك بالإرادة، وهي في الحيوانات تتصل بالنفس النباتية، وتتصف النفس العاقلة، المتصلة في الإنسان بالنفس النباتية والنفس الحيوانية، بإدراكها الأمور الكلية، وبأنها تفعل بالاختيار، وتتصف النفوس الحيوانية والعاقلة بخصائص الإدراك وخصائص الفعل، وتتألف من دراسة الثانية نظرية التأثرات التي لم يفصلها ابن سينا كثيرا، وتتألف من الأولى - في النفس الحيوانية - نظرية الإدراك، وفي النفس العاقلة، نظرية العلم، وهذا ما سنعنى به.
ولا يغب عن البال، لحسن فهم نظرية إدراك الحس والعلم العقلي في هذا المذهب، أمر الترتيب العام لرسم جميع هذه الفلسفة، الذي هو رسم على درجات، فمواليد النبات والحيوان والإنسان منضدة فيه على درجات الموجودات، مستندة في الأسفل إلى مولد المعدن وإلى المادة متصلة في الأعلى بالمولد الملائكي وعالم الروح، ويتألف من الخواص الجوهرية لأنواع النفس الثلاثة تدرج يمتد من حياة النباتات غير الشاعرة حتى فعالية الإنسان الحرة العقلية، وقد نظم علم النفس، بحصر المعنى، وفق مبدأ التدرج هذا، وإذا ما وقع تناول النفس الحيوانية والإنسانية معا، وجد أنهما تعرضان سلسلة من القوى، سائرة من التي تعطي الإحساس الجافي حتى التي تقوم غايتها على الإشراق الصوفي.
ولذا تكون في أسفل النفس الحيوانية قوى الحواس الأولية، وتكون فوق هذه القوى من القوى ما يمسك المعطيات المحسوسة، ويجمعها، ويفسرها على وجه مباشر. قال ابن سينا محدثا عن الروح الحيوانية:
4 «إن القوة المدركة تنقسم قسمين، فإن منها قوة تدرك من خارج، ومنها قوة تدرك من داخل»، فأما المدركة من خارج فتشتمل على الحواس، والمدركة من داخل فتشتمل على الذاكرة والخيال وعلى درجة أولية من التأمل.
وتوجد حواس خمس، وهي التي يعرفها العوام، وذلك ما لم يفضل عد ثماني حواس، وذلك بتقسيم حاسة اللمس إلى أربع على الوجه الآتي، قال فيلسوفنا:
5 «يشبه أن تكون هذه القوة لا نوعا واحدا، بل جنسا لأربع قوى منبثة معا في الجلد كله، فالواحدة حاكمة في التضاد الذي بين الحار والبارد، والثانية حاكمة في التضاد الذي بين اليابس والرطب، والثالثة حاكمة في التضاد الذي بين الصلب واللين، والرابعة حاكمة في التضاد بين الخشن والأملس.»
وقد درس ابن سينا طريقة قيام الحواس بوظائفها، غير أن هذا التحليل، الذي يتعلق بالتاريخ الطبيعي أكثر مما بالفلسفة، ليس ذا فائدة كبيرة على ما أرى، فيكفي - والحالة هذه - أن نلخص - على سبيل المثال - ما قاله عن حاسة البصر:
6 «ظن قوم أن البصر يخرج من شيء يسمى شعاعا، فيلاقي المبصر، ويأخذ صورته من خارج»، ويقول آخرون: إن البصر إذا كان بينه وبين المبصر شفاف بالفعل - وهو جسم لا لون له متوسط بينه وبين البصر - تأدى شبح ذلك الجسم ذي اللون الواقع عليه الضوء إلى الحدقة، فأدركه البصر، فهذه النظرية الثانية تبدو لنا في هذه الأيام معقولة جدا على ما فيها من غموض.
صفحة غير معروفة