وتجد ميول معمر في وحدة الوجود حاصلها لدى ثمامة بن الأشرس، وقد اضطهد الرشيد هذا العالم المعروف جيدا عند المؤرخين، فألقاه في السجن سنة 186. وعلى العكس تمتع بحظوة كبيرة لدى المأمون. وقد مات سنة 213، وكان ذا موهبة في التنادر والتهكم، كما هو ظاهر مما جاء في روايات المسعودي.
8
ومن الممتع قصة الطفيلي، الذي انساب بين جماعة من المانوية، معتقدا أنه أتى جمع لهو، فهذا الرجل أدرك خطأه حينما رأى نفسه ورأى المانويين مقرنين في الأصفاد كما أمر المأمون، فلما أتي بهؤلاء الزنادقة أمام الخليفة قتلوا. وأما الطفيلي، فقد صرح بأنه مستعد للكفر بماني وتدنيس صورته، قائلا: إنه كان مخطئا؛ فسري عن الخليفة. وإلى ثمامة ينسب الرأي القائل: إن العالم من عمل الله وفق الطبيعة؛ أي إن العالم ليس نتيجة عمل حر من الخالق، وإنما يصدر عن الطبيعة الإلهية وجوبا، وهكذا يكون العالم قديما كقدم الله ووجها من الألوهية.
ويظهر مبدأ التناسخ ثانية لدى عالمين من فرقة النظام، وهما أحمد بن حائط وفضل الحدثي، وقد طبقاه - مع التحديد وشيء من الغلظة - على أناس ليسوا صالحين تماما ولا أشرارا تماما، على أناس ليسوا أهلا للجنة ولا للنار؛ فأرواح هؤلاء الناس تدخل ثانية في أرواح أناس أو حيوانات وتستأنف حيوات أخرى. ولهما - كذلك - تأويل مبتكر لرؤية الله يوم البعث؛ وذلك أن الناس لن يروا الله نفسه، وإنما يرون العقل الأول؛ أي العقل الفعال، الذي تسري منه الصور إلى الموجودات. وعندهما أن هذا هو الذي قصده النبي حين قال: «إنكم سترون ربكم كما ترون القمر ليلة البدر.» وهذا مثال مكاني في تطبيق فكرة يونانية على نص إسلامي.
ونصل إلى مؤلف موسوعي كثير التأليف؛ نصل إلى عمرو بن بحر الجاحظ، الذي كان رئيسا لمعتزلة مدرسة البصرة، وكان هذا العالم خادما للنظام؛ فلازم دروسه وانتفع بعلمه. وتشتمل مكتباتنا على عدد كبير من المصنفات المعزوة إلى الجاحظ، وعلى ما يدور حول هذه النسبة من شك غالبا، فإن من المؤسف ألا تكون هذه المخطوطات موضع عناية كافية،
9
فقد تناول الجاحظ أكثر الموضوعات تنوعا؛ أي تناول الآداب والخطابة والأقاصيص وعلم الكلام والفلسفة والجغرافية والتاريخ الطبيعي، ويشتمل أثره على جميع الحياة الدينية والاجتماعية والأدبية في زمنه، وفاز أثره بأعلى مديح. قال المسعودي:
10 «لا يعلم أحد من الرواة وأهل العلم أكثر كتبا منه ... وكتب الجاحظ مع انحرافه المشهور تجلو صدأ الأذهان، وتكشف واضح البرهان؛ لأنه نظمها أحسن نظم، ووصفها أحسن وصف، ورصفها أحسن رصف، وكساها من كلامه أجزل لفظ.»
ويلوح أن الجاحظ زاول نفوذا عظيما؛ فأسهم في نشر روح فرقته الحر والانتقادي بين كثير من المؤلفين. وأما فلسفته الخاصة التي تعرف دائما من خلاصة الشهرستاني، فيلوح أنها لا تخلو من دقة وقوة.
فلا حرية في العلم، والعلم يصدر عن وجوب طبيعي، وليست الإرادة نفسها غير وجه من العلم ونوع من العرض، والعمل الإرادي يعين العمل الذي يعرف بفاعله، وليست الإرادة بالنسبة إلى العمل الخارجي غير ميل.
صفحة غير معروفة