المقدمة الأولى:
لا يمكن أن يكون لكل ممكن في زمان واحد علل ممكنة بلا نهاية. والواقع أنه إذا كان لا يوجد واجب وجود في جملة الممكنات فإن هذه الجملة تكون - ما دامت جملة - إما واجبة أو ممكنة، فإن كانت واجبة فيما أن كل واحد من حدودها ممكن، فإن الواجب يكون بالممكنات، وهذا محال، وإن كانت ممكنة فجملتها تكون محتاجة في الوجود إلى مفيد الوجود، وهذا الشيء إما أن يكون خارجا من الجملة أو داخلا فيها، فإن كان داخلا واجبا فإن أحد حدود الجملة يكون واجبا، وقد فرض أنها ممكنة، وإن كان داخلا ممكنا فإن هذا الشيء يكون علة الجملة؛ ولذا فإنه يكون علة أقسامها وعلة وجوده؛ ولذا فهو واجب، وقد فرض أنها ممكنة، وإن كان الشيء خارجا فإنه لا يكون علة ممكنة؛ وذلك لأن جميع الممكنات في الجملة؛ ولذا فهو واجب الوجود، وحينئذ تؤدي جميع الممكنات إلى هذه العلة الواجبة.
المقدمة الثانية:
إنه لا يجوز أن يكون للعلل عدد متناه، وأن يكون كل واحد من هذا العدد ممكن الوجود في نفسه، لكنه واجب بالآخر إلى أن ينتهي إليه دورا، وكنا فيما تقدم قد بينا أمر العلتين، ويمكن تعميم هذا البيان بنمط مماثل في أمر المقدمة الأولى، وذلك مع القول بأن هذا يؤدي إلى النتيجة القائلة: إن كل حد يكون علة ومعلولا بوجوده الخاص، وهذا محال.
المقدمة الثالثة:
لكل حادث علة في حدوثه، فلا يخلو أن يكون حادثا باطلا مع الحدوث لا يبقى زمانا، أو أن يبطل بعد الحدوث بلا فصل زمان، أو أن يكون بعد الحدوث باقيا. والقسم الأول محال ظاهر، والقسم الثاني أيضا محال؛ وذلك لأن الآنات تتعاقب بلا انقطاع، وقد بطل هذا؛ ولذا فإن لكل موجود علة من وجوده وعلة من جوهره، ويمكن اتحاد هاتين العلتين مثل القالب في تشكيل الماء، ويمكن أن تكونا منفصلتين مثل الصورة الصنمية التي يحدثها الصانع، والتي تثبتها يبوسة العنصر المتخذة منه، ولا يثبت الحادث لأنه أحدث ، وإنما يثبت بتحقيقه شرط علته الذي يجعله يثبت، فإذا ما حقق هذا الشرط ثبت الحادث ما بقي الشرط، ويصير الممكن واجبا بشرط، فهو يكون حينئذ واجبا بشيء آخر غير ذاته، والممكن الحقيقي معدوم، وكل ما يكون موجودا عند وجود هذا الممكن يكون واجبا. وبالعكس يكون معدوما وجوبا كل ما يكون معدوما عند كون ذلك معدوما.
وتعد هذه المقدمة الأخيرة تكملة لنظرية العلية وتطبيقا لها، ونحن نصوغها هكذا: «لكل حادث علة، وكلة علة مسببة.»
ويتم اتحاد هذه المقدمات الثلاث نظرية الموجود الأول في ثانية، وذلك أن الممكنات الموجودة تحتاج إلى علل (المقدمة الثالثة)، وأن هذه العلل لا تتسلسل إلى غير نهاية (المقدمة الأولى)، وأنها لا ترتد على نفسها (المقدمة الثانية)؛ ولذا فهي تؤدي إلى واجب الوجود.
ونود لو نصمت هنا بعد هذا البرهان، فندع القارئ يتذوق بنفسه إبداعه وانسجامه وقوته، ومع ذلك فإننا لا نستطيع أن نمحي تماما أمام مؤلفنا، وأن نتخلى عن قيادة هذا الكتاب في وقت يفرض علينا تعيين نتائجه. والواقع أن ما بقي علينا أن نقوله من شيء قليل عن التصوف ليس له غير قيمة تكميلية، فما ينطوي عليه سفرنا من أمر جوهري قد تم منذ الآن.
ويلوح لي - كما هو الواقع - أن النتائج التي نرى الوقوف عندها هي ما رأينا إشراقه وتعززه صفحة صفحة في أثناء هذا التحليل. وأول ما نقول: هو أن المبدأ السائد لمدرسة الفلسفة العربية قام على كون الفلسفة واحدة، وأصح من هذا أن يقال: إنها قامت على اعتبار كونها علما، فكان لها عين الخصائص التي نعترف بها للعلم؛ أي الشمول والتعيين، وما كان ليمكن أن يوجد فيها غير فلسفة واحدة لجميع الناس، كما لا يوجد غير علم واحد، فلما وجدت هذه الفلسفة وأوضحت عاد لا يجوز لها أن تكون عرضة لأي تغيير أو تطور بتعاقب الأزمان؛ ولذا فإننا نرى الفلسفة - تحت قلم ابن سينا الذي لم يكن نبوغه الرياضي بالغ القوة - قد نالت مظهرا علميا، كلا، بل مظهرا علميا محكما.
صفحة غير معروفة