ولو جزم ابن الأثير بأنها منحولة لابن سينا لما كان عليه من تثريب؛ لأن ابن سينا مات قبل وقوع هذه الحوادث بأكثر من مائتي سنة، ولم يثبتها أحد في كتابه خلال هذه السنين.
ولا نعرف كلاما صحت نسبته إلى الفيلسوف حاول فيه كشف الغيب من طريق التنجيم، وإنما يعرض لقوة الحروف الحسابية من قبيل الولع بالألغاز الرياضية التي يولع بها كبار الرياضيين شحذا للخاطر وتحريضا للملكة. فقابل بين الأحرف الأبجدية وبين الموجودات العلوية والسفلية، وجعل لكل حرف دلالة ثم وفق بين هذه الدلالات وبين الحروف التي وردت في أوائل السور القرآنية، فاستقامت له فكرة مقبولة واعتمد من أجلها ذلك التوفيق العجيب ولم يعتمده للتنجيم أو لتسخير القوى الطبيعية للحروف كما يفعل السحرة والمشعوذون، وقد ألف رسالة خاصة عن الحروف باعتبارها أصواتا طبيعية تختلف باختلاف حركات العضلات في الصدر والحلق والفم وتأثير تلك الحركات في الهواء.
ومن أمثلة ذلك أن الألف يساوي الواحد، فهو رمز للباري جل وعلا، وأن الباء رمز للعقل، والجيم رمز للنفس، والدال رمز للطبيعة، وهكذا إلى نهاية سلسلة الموجودات وهي المادة العنصرية. واستخلص من ذلك أن الكاف والعين والهاء والصاد والقاف وغيرها من الحروف في أوائل السور هي حاصل ضرب الحروف الدالة على تلك الموجودات بعضها في بعض على الحساب الذي تحراه، وإنها أقسام من قبيل الأقسام التي بدئت بها بعض السور مذكورة بالأسماء.
ونحن ننفي التنجيم عن ابن سينا ولا ننفي عنه الإيمان بإمكان علم الغيب والإخبار بالمغيبات، فإن المسألة عنده قضية فلسفية وليست بمسألة تصديق وتسليم؛ لأنه يقول بأن علم الله بالأشياء في الأزل هو سبب وجودها في الزمان، ويقول بصدور العقول العلوية من الله، وأن عقل الإنسان إذا ترقى في مراتب الكمال والصفاء بلغ مرتبة العقل المستفاد وهو على اتصال دائم بالعقل الفعال، فلا جرم بعلم الأمور قبل وقوعها ويكون له سلطان على إيجادها وإخراجها من القوة إلى الفعل، ولا يكون اعتقاد الفيلسوف هذا الرأي غريبا كأنه من قبيل التصديق الذي لا يليق بالمفكرين، فإنما هو قضية منطقية تنتهي إلى هذه النتيجة من طريق الفلسفة لا من طريق التصديق.
وقد يتصل الإنسان بالعقل الفعال من طريقين في رأي ابن سينا لا من طريق واحد.
يتصل به من طريق التأمل الصادق والفكر الصحيح، ويتصل به من طريق النسك والرياضة الروحية.
والطريق الأولى طريق الفلاسفة والحكماء، والطريق الثانية طريق النساك والصالحين.
ولابن سينا سبحات يفهم منها أنه راض نفسه على التصوف في بعض أيامه، وأنه حاول الكشف عن الحقائق متوسلا بالصلاة والزكاة والكف عن الشهوات، وكانت له علاقة بأكبر المتصوفة في زمانه «أبي سعيد بن أبي الخير»، وهو رجل يتعالى على خلافات الشعائر الدينية ويشطح ذلك الشطح البعيد في التسوية بين ضروب العبادات، وكان أبو سعيد يسأله ويستفسره في معضلات الفلسفة ويطلعه على ذات نفسه كأنه من الواصلين الذين لا تحجب عنهم هذه الأسرار.
إلا أن الرجل لم يخلق لعزلة التصوف، وطمأنينة الخلوات، ولكنه خلق لزحام الدنيا ومجاذبة الحوادث ومكافحة الرجال، وغلب فيه سلطان العقل على سلطان الروح، فتراه حتى في وصيته التي يكتبها إلى إمام المتصوفين يذكر السفر «بالعقل» إلى الملكوت ويتخذه مرقاة لطالب الوصول إلى اللاهوت، فلا عجب تنقطع المودة بينه وبين أبي سعيد ويعود أبو سعيد فيقول فيه:
قطعنا الأخوة عن معشر
صفحة غير معروفة