ورسائل الإخوان صريحة في الدعوة إلى آل البيت حيث تقول: «اعلم يا أخي بأنا قد عملنا إحدى وخمسين رسالة في فنون الآداب وغرائب العلوم وطرائف الحكم كل واحدة منها شبه المدخل والمقدمات والأنموذج لكيما إذا نظر فيها إخواننا وسمع قراءتها أهل شيعتنا وفهموا بعض معانيها وعرفوا حقيقة ما هو مقرون بها من تفضيل أهل بيت النبي لأنهم خزان علم الله ووارثو علم النبوات تبين لهم تصديق ما يعتقدون فيهم من العلم والمعرفة.»
فانتشار المباحث الفلسفية لا يستغرب على الخصوص في عصر ابن سينا وفيما وراء النهر وخراسان. لأن الدعوة العلوية كانت على أقواها في تلك الأطراف النائية، ولأن الفلسفة لذة عقلية في كل مكان أو زمان. أما في تلك الأطراف النائية فقد كانت في ذلك الزمن مطلبا يستمد القوة من قوة الأشواق العقلية وقوة المساعي السياسية وقوة الإيمان بالدين، وهي هناك على مقربة من الهند ومهد المانوية حيث آمن الناس قديما بحلول الروح الإلهي في أجساد البشر وآمنوا بتناسخ الأرواح وقداسة النساك والزهاد، فلا يستغربون ما ينسب إلى الإمام دون ذلك من الصفات أو من الأسرار والكرامات. •••
ومن الملاحظات التي لا تفوت المؤرخ في هذا الصدد أن كبار الفلاسفة المشرقيين جميعا كانوا من أنصار الشيعة، وهم الكندي والفارابي وابن سينا. فقد كان جد الكندي - الأشعث بن قيس - ممن قاتلوا مع علي وشهدوا معه معركة صفين، وكانت كندة كلها من خصوم الأمويين وشيعة الهاشميين، وكان آباء الكندي ممن خرجوا على الدولة الأموية وجردوا من مناصبها ولبثوا مغضوبا عليهم في زمانها. أما الفارابي فقد جمع بين التشيع والتصوف وآوى إلى دولة بني حمدان المتعصبة لآل البيت، وحسبك من تشيع ابن سينا نشأته بين الإسماعيليين واسمه الذي يدل على نسب عريق في نصرة آل علي وهو: أبو علي الحسين بن عبد الله بن الحسن بن علي ...
بل كان البيت الذي ولد فيه ابن سينا مركزا من مراكز الدعوة الإسماعيلية والمباحث الفلسفية، ولم يكن قصاراهم منها الإيمان بها وكفى. قال فيما رواه عنه تلميذه الجوزجاني: «وكان أبي ممن أجاب داعي المصريين ويعد من الإسماعيلية، وقد سمعت منهم ذكر النفس والعقل على الوجه الذي يقولونه ويعرفونه هم، وكذلك أخي ...»
وقل أن ذكر في ترجمة ابن سينا أمير أو وزير أو صاحب شأن إلا ذكر من شأنه أنه كان يقتني مكتبة عامرة بأسفار العلم والحكمة، أو أنه كان من محبي هذه العلوم، ويعنون بها علوم المنطق والنظر والدراسات الفكرية فيما وراء الطبيعة، أو أنه كان يجلس في يوم من الأيام للمناظرة والمساجلة، أو أنه كان يفتح داره لمن يتوفر فيها على التأليف والتصنيف.
قال القفطي صاحب تاريخ الحكماء في ترجمة الإسكندر الأفروديسي رواية عن يحيى بن عدي الفيلسوف: «إن شرح الإسكندر للسماع الطبيعي كله ولكتاب البرهان رأيتهما في تركة إبراهيم بن علي عبد الله ... وعرضا بمائة دينار وعشرين دينارا، فمضيت لأحتال بالدنانير وعدت وأصبت القوم قد باعوا الشرحين في جملة كتب على رجل خراساني بثلاثة آلاف دينار ... وكانت هذه الكتب تحمل في الكم ...»
فإذا كان «رجل خراساني» يشتري لفافة من الورق بهذا الثمن الضخم لأنها شروح فلسفية، فقد علمنا إذن كيف كان شأن الفلسفة بين النكرات فضلا عن الإعلام في خراسان. •••
بعض العباقرة ينبغون في وطن من الأوطان أو في عصر من العصور، فيستغرب نبوغهم فيه. أما ابن سينا فلا يستغرب نبوغه في عصره ولا في وطنه ولا في بيته، بل الغريب أن يكون العصر والموطن والبيت على تلك الحالة ثم لا يظهر فيه نابغ فيلسوف. (1) سيرة ابن سينا
كان عبد الله بن الحسين بن علي من أهل بلخ في بلاد الأفغان عاملا للدولة السامانية، وكان يتولى من قبلها التصرف بأعمال قرية «خرمتين» من ضياع بخارى، وكانت إلى جوار مركزه في عمله قرية أفشنة، فكان يزورها ويتعرف إلى بعض أهلها، ومنها تزوج فتاة تسمى ستارة كما جاء في ابن خلكان، وفيها ولد لهما ابنهما «الحسين» الذي اشتهر بكنيته العليا «ابن سينا» وأصبح اسمه أشهر الأسماء بين فلاسفة الشرق وأطبائه، ثم أصبح لقب الشيخ الرئيس علما عليه لا ينصرف إلى سواه.
ولد في سنة 370ه/980م، وانتقل مع آله في السنة الخامسة من عمره إلى بخارى، وكان أبوه من طائفة الإسماعيلية وهي يومئذ صاحبة مذهب في الخلق والوجود وتفسير الشرائع بالظاهر من ألفاظها والباطن من معانيها، فنشأ الحسين الصغير وهو يستمع إلى المناقشات الفلسفية والتأويلات الدينية في «النفس» و«العقل» وأسرار الربوبية والنبوة، وحفظ القرآن وهو دون العاشرة من عمره، وتعلم اللغة على أبي بكر أحمد بن محمد البرقي الخوارزمي، وتعلم الفقه على إسماعيل الزاهد. ومر ببخارى أبو عبد الله الناتلي الذي كان يعرف بالمتفلسف لاشتغاله بالمنطق والرياضة، فاستنزله الوالد في منزله عسى أن ينتفع الناشئ النجيب بعلمه، فقرأ عليه الحسين كتاب «ايساغوجي» في المنطق لصاحبه ملك الصوري المشهور بفرفريوس، وكتاب المجسطي في علم الهيئة والجغرافية لبطليموس الجغرافي، وظهرت باكورة الفيلسوف في أوائل صباه فإذا هو يناقش أستاذه في حد «الجنس» خاصة وهو من الحدود التي دار عليها مذهبه الفلسفي وكان له فيها رأي فاصل بين أفلاطون وأرسطو، وعلم الأستاذ أن تلميذه قد تلقى عنه كل ما هو قادر على إعطائه فاستأذن منصرفا إلى مطافه بالبلاد على سنة الدراويش المتفلسفين في ذلك الزمان. واستتم الفيلسوف الصغير كل ما وجده بين يديه من علوم الحكمة والمنطق والرياضة، فبلغ فيها الغاية وهو في الثامنة عشرة من عمره، وكان في أيام طلبه لا ينام ليلة بطولها ولا يلتفت بالنهار إلى عمل غير القراءة والتحصيل، وربما غلبه النوم فإذا هو يحلم بتلك المسائل بأعيانها وتتضح له وجوهها في منامه، وهي حالة يعرفها الدارسون ولا تستغرب في رأي العلم الحديث؛ لأن الوعي الباطن يتنبه في هذه الحالة فيتعاون العقلان ولا ينفرد العقل الظاهر بالتفكير.
صفحة غير معروفة