ولم تخف على أفلاطون نقائض هذا الرأي ومفارقات القول بوجود الصحائح المجردة بمعزل عن الأجسام المادية، فقد وجه إليها في بعض محاوراته مناقضات لا تقل في قوتها وإقناعها عن المناقضات التي هاجمه بها خصوم رأيه. ولكنه يري أن الفكرة في أساسها صحيحة كافية لتفسير العلاقة بين عالم العقل وعالم المادة، وإن تعذر تطبيقها في جميع الأحوال، لأن المجردات لا تنحصر في وعينا كما تنحصر فيه المحسوسات.
وليس في مذهب أفلاطون أن الله خلق جميع هذه المحاولات المادية التي تتفاوت في مراتب الخير والجمال، ولكنه يؤمن بأرواح وسطى بين الله والإنسان كأنها الملائكة في الأديان الكتابية ويسميها الأرواح الصانعة
Demiurges
وينسب إليها التشبه بالإله الواحد الصمد في خلق الخير والجمال، وهو يرى أن الأرواح تعمر الكواكب السيارة وتحركها في أفلاكها المنتظمة، وأنها تتوخى الدوران لأن الكون كله مستدير، وإنما كان مستديرا لأن المتشابه خير من المتنافر أو الذي لا تتشابه أجزاؤه. والكرة المستديرة هي أوفى الأشكال بتشابه الأجزاء.
أما قدم العالم أو حدوثه فأفلاطون يقول بأن «الزمان، هو محاكاة للأبدية، أو هو الأبدية التي تسمو إليها منزلة المخلوقات، فالله سرمد منزه عن التحيز والأجل المحدود، لا أول له ولا آخر، ولا مكان له ولا زمان. وهو - بكرمه وإنعامه - قد شاء للمخلوقات أن تتشبه به في صفات الكمال، فأراد لها الدوام وأحب أن يعصمها من الدثور والفناء، ولكنه لا يخلع عليها دوام «الأبدية» لأن دوام الأبدية صفته جل وعلا، فهو لا يخلعها وهي لا تنتقل من المنعم بها إلى المنعم عليه. فأعطاها دوام الزمان لأنه أكمل دوام ترتقي إليه المخلوقات. وأبدع الفلك والزمان معا، فشمل بهما جميع مخلوقاته. ومن هذا يظهر أن المادة الأولى أو الهيولى كما يسميها الفلاسفة أقدم من الفلك وأقدم من الزمان.»
وجود النفس
أما النفس فهي موجودة في رأي أفلاطون كما تقدم: وجدت في عالم العقل أو المعنى أو في عالم الصحائح والمثل الذي أجملنا القول فيه. فهي تعرف الحقائق بالتذكر ولا يحجبها عنها إلا حجاب الحسد وضلال الحس والشهوة، وهي خالدة لا تموت لأنها جوهر بسيط لا يتحلل كما يتحلل الجسد المركب، ولكنها تلابس المادة في حياتها الجسدية ثم تفارقها إلى عليين لتعيش بين الأرباب والملائكة والأرواح، ومصيرها مقدور بمصير المادة التي تلابسها، فإن هبطت مع مادة الجسد صارت إلى جسم حيوان أو حشرة أو مخلوق حقير، وإن ترفعت عن مادة الجسد صعدت إلى الرفيق الأعلى، وعادت إلى عالم الخلد والكمال.
ويبدو من كلام أفلاطون عن النفس أو عن الروح أنها طراز ثالث من الموجودات المعقولة والموجودات المحسوسة؛ لأنها تشترك مع كليهما في حياتها الجسدية. فتعقل ثم تعمل مع الجسم في أداء الوظائف الحيوية كالخوالج العليا والأحاسيس الرفيعة والشهوات الجثمانية. وقد يجعل أفلاطون لهذه الوظائف المختلفة أماكن مختلفة من بنية الإنسان. فالنفس العاقلة في الدماغ، والنفس الحاسة في الصدر ، والنفس المشتهية في الأحشاء. ولا يفهم من هذا أن النفس نفوس ثلاث أو أنها منقسمة إلى عناصر ثلاثة، وإنما يستخلص منه أن النفس لا تعمل في عالم المعقولات كما تعمل في عالم المحسوسات والمشتهيات، لأنها تلتقي في بعضها بقيود لا تلتقي بها في بعضها الآخر. فهو اختلاف في القدرة على التجرد بغير عائق أو بعائق كبير أو صغير، وليس بين هذا الرأي في النفس وبين رأي البراهمة فيها فرق كبير.
وجود الشر
والشر في الدنيا موجود ولكنه من ضرورات المادة في قصورها ومحاولتها التي تشرئب بها إلى ما هو أكمل وأعلى. أما الله فلم يخلق إلا الخير ولا يصدر عنه إلا الخير، وكأنما قصور المادة طبيعة فيها عند أفلاطون لأنها قاصرة بذاتها معارضة لما يحركها ويسمو بها على طبيعتها. وهنا يبدو من أقواله في هذا الموضوع أن إرادة الله لا تبطل الضرورات ولكنها تقربها إلى الخير والكمال بما تضفي عليها من عالم الحق والعدل والتنزيه. فإذا كان سبب الأمر من عالم العقل فالله يوحي إليه فيتلقى عنه وحيه، وإذا كان سبب الأمر من عالم الضرورة أو عالم المادة فهو معارض للعقل، ومنه العناد والشر والفساد.
صفحة غير معروفة