فقد كانت المصادر إذن مختلفة، وكان أكثرها مرويا عن صاحبه مأخوذا من خلاصة كلامه، ولو توحدت المصادر مع حسن النية لما تباعدت بين المتناظرين في هذه المسألة ولا في غيرها شقة الخلاف.
ولتمام الفهم للعوامل التي تبعث القوة في هذه المساجلات، نرجع إلى عهد هذه المساجلة الأخيرة - وهي كسابقاتها تجمع بين مسائل الفلسفة ومسائل الدين - فإنها بدأت في أوائل القرن العشرين (سنة 1902)، أي على مفترق الطريق بين عهد التقليد وعهد الاجتهاد، وفي إبان الحركة التي أيقظت العقول لمواجهة الحياة في العصر الحديث. (5) خاتمة
إلى هنا تنتهي الصورة التي أردنا أن نبرزها للشارح الكبير، ونرجو أن نكون قد أبرزنا بها صورة صحيحة لعقل ابن رشد في شتى مشاركاته، وهي الفلسفة والطب والفقه، وما يتخللها من معارف موزعة كالعلم الطبيعي وما إليه في زمانه.
وهذه الصورة صحيحة فيما نرجو إذا كانت قد صورت عقل ابن رشد في أحسن عمله، وهو عقل قد امتاز بصدق الفهم وجودة الاستيعاب والأمانة في التعلم والتعليم.
لقد كان من تمام فهمه أنه شغله بما يحسنه ويسمو به على نظرائه؛ فلا جرم كان شغله الأكبر بالشرح والتحصيل، ولم يشغل نفسه كثيرا بالابتداع والابتكار.
وقد كان لفيلسوفنا عقل يغلب عليه المنطق والبحث العلمي، ويقل فيه نصيب النظر الصوفي الذي تروعه رهبة المجهول، كأنه يشعر به عن كثب ويشعر به على الدوام.
وهذه خصلة تظهر لنا في كثير من المناقشات بينه وبين الغزالي؛ فإن ابن رشد لا يقصر عن الغزالي في شيء من الاحتمالات المنطقية والتقديرات العقلية، ولكن الغزالي الصوفي يحس شيئا وراء ذلك ويضعه في ميزانه عند تفكيره، وإن لم يحصره بالدقة التي تحصر بها جميع المعقولات مما لا يحيطه الغيب ولا يظلل عليه الخفاء.
ولولا هذه الخصلة في عقل ابن رشد لما خطر له - كما قال في صدر شروحه على كتاب ما بعد الطبيعة - أن أرسطو «يظن» أنه قد أدرك الحقيقة كلها في هذا الجانب من بحثه، ولكنه كان صاحب عقل منطقي علمي يقف عند حدود ما يعرف، ومن أمانته لما يعرف أنه ترك التصوف لذويه، ولم يجعله عرفانا ميسرا لكل من يدعيه.
عقل الشارح الفاهم الأمين غير مدافع.
ذلك مكانه في تاريخ الفكر الإنساني، وقد بلغ به قصارى أثره، وغاية قدره، وإنه لأثر كبير وقدر عظيم.
صفحة غير معروفة