وقد كانت لابن رشد آراء في كل مسألة من هذه المسائل، ليست مطابقة كل المطابقة لما فهمه الأوروبيون في القرون الوسطى، وليست مغايرة لها كل المغايرة، ولكنها آراء كان الفيلسوف حريصا جد الحرص على أن يلتزم بها حدود دينه، ولا يخرج بها عما يجوز للمسلم أن يعتقده وأن يعلمه للمسلمين، وسنرى مبلغ ما أصابه من التوفيق في هذا المجال، وهذه هي خلاصة آرائه في هذه المسائل وفي غيرها من مسائل الحكمة والعقيدة، معتمدين فيها على نصوصه العربية التي بين أيدينا، غير معولين فيها على مصدر من المصادر الأجنبية.
قدم العالم
يقول ابن رشد عن قدم العالم في كتابه «فصل المقال فيما بين الحكمة والشريعة من الاتصال»: «وأما مسألة قدمه أو حدوثه، فإن الاختلاف فيها عندي بين المتكلمين من الأشعرية وبين الحكماء المتقدمين يكاد يكون راجعا للاختلاف في التسمية، وبخاصة عند بعض القدماء؛ وذلك أنهم اتفقوا على أن هاهنا ثلاثة أصناف من الموجودات: طرفان وواسطة بين الطرفين، فاتفقوا في تسمية الطرفين واختلفوا في الواسطة.
فأما الطرف الواحد فهو موجود وجد من شيء غيره، وعن شيء أعني عن سبب فاعل ومن مادة، والزمان متقدم عليه ... وهذه هي حال الأجسام التي يدرك تكونها بالحس، مثل تكون الماء والهواء والأرض والحيوان والنبات وغير ذلك، فهذا الصنف من الأصناف اتفق الجميع من القدماء والأشعريين على تسميتها محدثة (هكذا).
وأما الطرف المقابل لهذا فهو موجود لم يكن من شيء، ولا عن شيء ولا تقدمه زمان، وهذا أيضا اتفق الجميع من الفرقتين على تسميته قديما، وهذا الموجود يدرك بالبرهان، وهو الله تبارك وتعالى، وهو فاعل الكل وموجده، والحافظ له سبحانه وتعالى قدره.
وأما الصنف من الوجود الذي بين هذين الطرفين، فهو موجود لم يكن من شيء ولا تقدمه زمان، ولكن موجود عن شيء أي عن فاعل، وهذا هو العالم بأسره ، والكل منهم متفق على وجود هذه الصفات الثلاث للعالم، فإن المتكلمين يسلمون أن الزمان غير متقدم عليه أو يلزمهم ذلك؛ إذ الزمان عندهم شيء مقارن للحركات والأجسام.
وهم أيضا متفقون مع القدماء على أن الزمان المستقبل غير متناه، وكذلك الوجود المستقبل، وإنما يختلفون في الزمان الماضي والوجود الماضي؛ فالمتكلمون يرون أنه متناه، وهذا هو مذهب أفلاطون وشيعته، وأرسطو وفرقته يرون أنه غير متناه كالحال في المستقبل، فهذا الموجود الآخر الأمر فيه بين؛ إنه قد أخذ شبها من الوجود الكائن الحقيقي ومن الوجود القديم، فمن غلب عليه ما فيه من شبه القديم على ما فيه من شبه المحدث سماه قديما، ومن غلب عليه ما فيه من شبه المحدث سماه محدثا.
وهو في الحقيقة ليس محدثا حقيقيا ولا قديما حقيقيا؛ فإن المحدث الحقيقي فاسد ضرورة، والقديم الحقيقي ليس له علة. ومنهم من سماه محدثا أزليا وهو أفلاطون وشيعته؛ لكون الزمان متناهيا عندهم من الماضي.
فالمذاهب في العالم ليست تتباعد كل التباعد حتى يكفر بعضها ولا يكفر، فإن الآراء التي من شأنها هذا يجب أن تكون في الغاية من التباعد ... ... وإن ظاهر الشرع إذا تصفح ظهر من الآيات الواردة في الأنباء عن إيجاد العالم أن صورته محدثة بالحقيقة، وأن نفس الوجود والزمان مستمر من الطرفين - أعني غير منقطع - وذلك أن قوله تعالى:
وهو الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام وكان عرشه على الماء
صفحة غير معروفة