وثالثها:
أن فلسفة ابن رشد ذاعت بين الأوروبيين في إبان سلطان محكمة التفتيش التي كانت تتعقب الفلسفة العربية الأندلسية على الخصوص، وتحرم الاشتغال بالعلوم التي تخالف أصول الدين في تقديرها، فمن الطبيعي أن تنسب إلى ابن رشد كل معنى يسوغ ذلك التحريم ويقيم الحجة على صوابه، وأن تؤكد كل فكرة تلوح عليها المخالفة وإن جاز تأويلها على عدة وجوه.
أما فلسفة ابن رشد كما كان يعتقدها، فالمعول فيها على كتبه ك «منهاج الأدلة» و«فصل المقال»، وعلى آرائه التي يبديها في سياق مناقشاته، كتلك الآراء التي قال بها في ردوده على الغزالي من كتاب «تهافت التهافت»، ثم على آرائه في شرحه للمقولات وتفسير لما بعد الطبيعة، وما شابه هذه الآراء في الكتب الأخرى التي يتيسر الوصول إليها.
وبين الفلسفتين: فلسفة ابن رشد كما فهمها الأوروبيون في القرون الوسطى، وفلسفته كما اعتقدها؛ مواضع اختلاف يمس الجوهر أحيانا أو يسمح بتفسير آخر في غير تلك الأحيان. •••
لخص الأستاذ موريس دي ولف آراء ابن رشد في كتابه عن تاريخ فلسفة القرون الوسطى
2
فقال: «كانت إسبانيا في القرن العاشر ملتقى أجناس كثيرة مختلفة أشد اختلاف؛ فكان اليهود والمسيحيون في دول المسلمين يعيشون جنبا إلى جنب مع العرب ... وساعد هذا على جعل إسبانيا مركزا لحركة فلسفية قوية إلى القرن الثالث عشر.
ويرجع أصل الفلسفة العربية الإسبانية إلى القرن التاسع حين جدد ابن مسرة آراء أمبدوقليس المزعومة، ونجد في القرن الحادي عشر اسمي ابن حزم القرطبي وابن باجة السرقسطي ... وكان الأخير مؤلف كتب في المنطق، ورسالة في النفس وشروح عدة لأرسطو، وكتاب عن هداية المتوحد يصور درجات الاتصال عند المتصوفة، ونجد كذلك اسم ابن الطفيل وعنده مثل هذه الميول الصوفية.
ولكن أحدا من هؤلاء الفلاسفة لم يبلغ مبلغ ابن رشد في ذيوع الصيت ... ولم يكن لإعجابه بأرسطو حد ... ولكن لا يفهم من هذا أن فلسفته إنما هي نسخة من الفلسفة الأرسطية.
ويمكننا أن نقسم شروح أرسطو التي تركها ابن رشد إلى ثلاثة أقسام: الشروح الكبرى، والشروح الصغرى، والمختصرات أو المقتبسات، فالشروح الكبرى تتابع الأصل متابعة دقيقة ثم تشفعها بالتفسير المستفيض، والشروح الأخرى أكثر تركيزا وتنظيما في معالجة الموضوعات وترتيبها، وتورد عليها مناقشات وإضافات شخصية لا يسهل استخراج الآراء المنسوبة إلى أرسطو من خلالها، وإنما يتبع ابن رشد فيلسوف استاجيرة بغاية الدقة في المنطق وحده.»
صفحة غير معروفة