التأويل وقانونه
ولم يدع ابن رشد الأمر فوضى؛ فيؤول كل ما يريد من النصوص، ويثبت التآويل في أي كتاب يريد، ويصرح بها لمن يشاء، بل جعل لكل ذلك قانونا يعلم منه ما يجوز تأويله وما لا يجوز، وما جاز تأويله فلمن؟ هذا التأويل، الذي جعل - في رأيه - كل شيء في موضعه، ختم به كتابه: «الكشف عن مناهج الأدلة»، فليرجع إليه من يريد البسطة في هذه المسألة.
إنما نذكر أنه أراد بهذا القانون أن يضع حدا للتآويل التي كثرت وذاعت وتناولها الجميع حتى حدثت عنها اعتقادات غريبة وبعيدة عن ظاهر الشريعة، ووجد بسببها في الإسلام فرق متباينة يكفر بعضها بعضا. وهذا كله جهل بمقصد الشرع وتعد عليه كما يقول.
ومن أجل ذلك، أي لكي نتقي أمثال هذه النتائج السيئة، وننفي العداوة بين الحكمة والتربية، يجب بصفة عامة - كما يرى - ألا يصرح بالتآويل، وبخاصة ما يحتاج منها إلى برهان لغير أهلها، وهم القادرون على البرهان والاستدلال بالمنطق، كما يجب ألا نثبت شيئا منها في الكتب الخطابية والجدلية الموضوعة للعامة ومن إليهم من الجدليين. إننا إن فعلنا غير هذا أثمنا، وكنا سببا في إضلال كثير من الناس.
ونظرة فيلسوف قرطبة هذه نظرة عملية صادقة؛ فإن تمثيل نعيم الجنة للعامة بأنه مادي من جنة فيها أنهار من ماء غير آسن، وأنهار من لبن لم يتغير طعمه، وأنهار من خمر لذة للشاربين، وأنهار من عسل مصفى، وفيها مع هذا كله من كل الثمرات - هذا التمثيل يدفع للخير ويحث على الفضيلة، وإنه خير لهم من تشكيكهم في هذا الجزاء المادي المحس، ومن محاولة تفهيمهم أن ما جاء به القرآن والحديث دالا على مادية الثواب إنما هو رموز وأمثال، وأن هذا الثواب الذي وعد به الفضلاء الأخيار لن يكون إلا معنويا للنفوس وحدها التي ليس لها إلى التنعم بتلك اللذات المادية من سبيل.
من السهل بعد هذا أن نفهم أن فيلسوفنا لا يرى أن في النصوص الدينية - من القرآن والحديث - نصوصا متشابهات، لا بالنسبة للعلماء الذين يعلمون مع الله تأويلها، ولا بالنسبة للجمهور الذي لا يطلب منه إلا أن يؤمن بما يفهم من ظواهرها دون البحث عن تأويلها وبيان معانيها الخفية. أما أهل الجدل والمتكلمون، فهم الذين يوجد في حقهم التشابه في بعض هذه النصوص. إنهم وقد ارتفعوا عن العامة، ولم يصلوا إلى مرتبة الخاصة، عرضت لهم شكوك وشبه لا يقدرون على حلها، ولكنهم تعلقوا بها، فحاولوا عبثا تأويلها، فضلوا في أنفسهم، وأضلوا من اتبعهم؛ لهذا ذمهم الله بأن في قلوبهم زيغا ومرضا، فهم يتبعون ما تشابه من القرآن ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله، وما هم ببالغيه؛ إذ لا يعلم هذا التأويل إلا الله والراسخون في العلم، وهم ليسوا منهم في شيء.
وقد بلغ اعتقاد فيلسوف قرطبة بقوة تأثير هذا الذي ذهب إليه، من جعل تعليم للعامة وآخر للخاصة، في التوفيق بين الوحي والعقل مبلغا كبيرا؛ لهذا نراه يتشدد في ذلك إلى درجة أن يرى أن من النصوص ما يجب على أهل البرهان تأويله، وحملهم إياها على ظواهرها كفر، كما يجب على العامة حملها على هذه الظواهر، وتأويلهم لها كفر. ومن هذه النصوص قوله تعالى:
الرحمن على العرش استوى ، ونحوه من الأحاديث التي توهم أن الله جسم تجوز عليه النقلة من مكان إلى آخر.
بل إنه، إرادة تثبيت مذهبه، يصوغ مما تقدم مبدأ عاما، فيقول في فصل المقال: «إن من كان من الناس فرضه الإيمان بالظاهر فالتأويل في حقه كفر؛ لأنه يؤدي إليه.» وغني عن البيان أن من كان فرضه التأويل؛ لأنه من ذوي البرهان، وحمل النص على ظاهره، كان كافرا إن كان هذا في أصول الدين، أو مبتدعا إن كان في الفروع.
كما أنه يتشدد في وجوب تطبيق ما وضع من مبادئ وقواعد تتعلق بالتأويل، وتحريم أن يذاع لغير أهله؛ ولهذا لام الغزالي - وسائر المتكلمين من أشاعرة ومعتزلة - لإثباتهم التآويل في مؤلفاتهم، فذاعت لذلك بين العامة ومن ليس أهلا لها.
صفحة غير معروفة