فليس من الصدق للتاريخ إذن أن يقال: إن ابن الرومي كان خاملا بذلك المعنى الشائع من الخمول، ولكنه مع هذا كان خاملا، وكان خموله أظلم خمول يصاب به الأدباء؛ لأنه الخمول الذي يحفظ ذكر الأديب، ولكنه يخفي أجمل فضائله وأكبر مزاياه. وهذا هو الحيف الذي أصاب ابن الرومي، ولا يزال يصيبه عندنا بين جمهرة الأدباء والمتأدبين.
قال ابن خلكان يصفه ويقدره: «هو صاحب النظم العجيب، والتوليد الغريب، يغوص على المعاني النادرة، فيستخرجها من مكامنها ويبرزها في أحسن صورة، ولا يترك المعنى حتى يستوفيه إلى آخره ولا يبقي فيه بقية.»
وهذا وصف صادق كله، ولكنه ليس بكل الوصف، الذي ينبغي أن يوصف به ويتمم به تعريفه، فهو تعريف ناقص، والناقص فيه هو المهم، وهو الأجدر بالتنويه؛ إذ هو المزية الكبرى في الشاعر، وهو هو الطبيعة الفنية التي تجعل الفن جزءا لا ينفصل من الحياة.
ما الغوص على المعاني النادرة؟ وما النظم العجيب والتوليد الغريب إن لم يكن ذلك كله مصحوبا بالطبيعة الحية، والإحساس البالغ، والذخيرة النفسية، التي تتطلب التعبير والافتنان فيه؟ إن كثيرا من النظامين ليغوصون على المعاني النادرة ليستخرجوا لنا أصدافا كأصداف ابن نباتة وصفي الدين، أو لآلئ رخيصة كلآلئ المعتز وابن خفاجة وإخوان هذا الطراز، وإن الغوص على المعاني النادرة لهو لعب فارغ كلعب الحواة والمشعوذين إن لم يكن صادق التعبير، مطبوع التمثيل والتصوير. وعلى الأوراق المالية رسوم ونقوش وأرقام وحروف، ولكنها برسومها ونقوشها وأرقامها وحروفها لا تساوي درهما إن لم يكن وراءها الذهب المودع في خزانة المصرف! فالإحساس هو الذهب المودع في خزانة النفس، وهو الثروة الشعرية التي يقاس بها سراة الكلام، أما الرسوم والنقوش والأرقام والحروف، فعلامة لا أكثر ولا أقل، وقد تغني عنها علامة أخرى برقم ساذج وتوقيع بسيط!
نعم، ما النظم العجيب والتوليد الغريب واستغراق المعنى حتى يستوفى إلى آخره ولا تبقى فيه بقية؟ إن هذا بقضه وقضيضه إن هو إلا أدوات التعبير، وليس هو التعبير المطلوب في لبابه، فإذا لم يكن عند الشاعر ما يعبر عنه، فكل معانيه وتوليداته ونوادره لغو لا حاجة بنا إليه، وإذا كان عنده ما يعبر عنه، واستطاع التعبير بغير توليد ولا إغراب ولا استغراق؛ فقد أدى رسالته وأبلغ في أدائها أكمل بلاغ، وهذه هي الرسالة المقصودة، وهذا هو الشعر الجيد، وهذه هي الطبيعة الفنية. أما المعاني والتوليدات فهي وسائل إلى غاية لا قيمة لها إلا فيما تؤديه وتنتهي إليه، ويستوي بعد ذلك من أدى إليك سريرة نفسه بتوليد وإغراب، ومن أداها إليك بكلام لا أغراب فيه ولا توليد.
وابن الرومي شاعر كثير التوليد، غواص على المعاني، مستغرق لمعانيه، ولكننا لو سئلنا: ما الدليل على شاعريته؟ لكان غبنا له أن نحصر هذا الدليل في التوليد والغوص والاستغراق، فقد نحذف منه توليداته ومعانيه، ولا نحذف منه عناصر الشاعرية والطبيعة الفنية، فهو الشاعر من فرعه إلى قدمه، والشاعر في جيده ورديئه، والشاعر فيما يحتفل به وفيما يلقيه على عواهنه، وليس الشعر عنده لباسا يلبسه للزينة في مواسم الأيام، ولا لباسا يلبسه للابتذال في عامة الأيام، كلا! بل هو إهابه الموصول بعروق جسمه، المنسوج من لحمه ودمه، فللرديء منه مثلما للجيد من الدلالة على نفسه، والإبانة عن صحته وسقمه، بل ربما كان بعض رديئه أدل عليه من بعض جيده، وأدنى إلى التعريف به والنفاذ إليه؛ لأن موضوع فنه هو موضوع حياته، والمرء يحيا في أحسن أوقاته، ويحيا في أسوأ أوقاته، ولقد تكون حياته في الأوقات السيئة أضعاف حياته في أحسن الأوقات.
هذا الجانب من شاعرية ابن الرومي هو الجانب الخامل المجهول، وهو الجانب الذي وقفنا على التعريف به صفحات هذا الكتاب، وعندنا أننا ننصف كل شاعر - ولا ننصف ابن الرومي وحده - بتوضيح هذا الجانب من الشاعرية، أو بتوضيح ما نسميه الطبيعة الفنية؛ لأنه هو المقياس الذي لا يتم لنا أن نقدر شاعرا بغيره، والذي نجهل الشعر كله والشعراء كلهم إذا نحن أغضينا عنه والتفتنا إلى سواه مما لا يستحق كبير التفات.
الفصل الأول
عصر ابن الرومي أو القرن الثالث للهجرة
«كان أحسن الأزمان وكان أسوأ الأزمان، كان عصر الحكمة وكان عصر الجهالة، كان عهد اليقين والإيمان، وكان عهد الحيرة والشكوك، كان أوان النور وكان أوان الظلام، كان ربيع الرجاء وكان زمهرير القنوط: بين أيدينا كل شيء، وليس بين أيدينا شيء قط، وسبيلنا جميعا إلى سماء عليين، وسبيلنا جميعا إلى قرار الجحيم، تلك أيام كأيامنا هذه التي يوصينا الصاخبون من ثقاتها أن نأخذها على علاتها، وألا نذكرها إلا بصيغة المبالغة فيما اشتملت عليه من طيبات ومن آفات.»
صفحة غير معروفة