ولم يخل علم من العلوم القديمة أو الحديثة من أعلام نبغوا في القرن الثالث أو حضروا أوائله، حتى العلوم العربية التي كان ابن قتيبة يتهم القوم بإهمالها والجهل بفضائلها، وهي علوم الرواية والنحو واللغة والأدب، فمن رجالها المشهورين الذين حضروا ذلك القرن: الفراء، وابن السكيت، وقطرب، وابن الأعرابي، ونفطويه، والجاحظ، وأبو عثمان المازني، وثعلب، والزجاج، والمبرد، وابن الأنباري، وابن دريد، والأخفش، والسجستاني، والصولي، والرياشي، وأبو سعيد البكري، وقدامة بن جعفر، وابن أبي الدنيا، وابن العلاء السكري، وكثيرون ممن يضارعون هؤلاء أو يقلون عنهم في الطبقة والشهرة.
أما العلوم الأخرى فقد تأسس في ذلك القرن التاريخ والجغرافيا، وعاش فيه من المؤرخين والجغرافيين: البلاذري، واليعقوبي، وأبو حنيفة الدينوري، وأبو زيد البلخي، والطبري، وابن البطريق ، وابن خرداذبه، وابن الفقيه، وابن رسته، وبرزك بن شهريار وآخرون، وكان من فلاسفته: الكندي والفارابي وابن سينا، ومن أطبائه: الرازي وابن سهل وابن ماسويه، وراج علم النجوم حتى أوشك ألا يكون في ذلك الزمن إلا منجم!
ولم يقتصر الأمر على نبوغ هؤلاء الأعلام في مناهج العلم المختلفة، بل تجاوزه إلى طوائف الناس من خاصة وعامة، فتحدثوا بالعلوم واشتغلوا بمحاوراتها ومناظراتها، وأقبلوا على اقتناء كتبها، فكان العصر عصر ثقافة عامة كثرت فيه المشاركة في مسائل البحث والمطالعة، وشاع ذلك بين الناس أوسع شيوع، حتى كان الرجل منهم يجمع بين أشتات الثقافة في زمنه، كما رأيت فيما نقلناه عن علي بن يحيى المنجم، أو كما ترى من قول ابن الرومي في رجل يصفه بدعوى العلم في معرض الهجو والتهكم:
قولا لطوط أبي علي
بصرينا الشاعر المنجم
المنذر المضحك المغني
الكاتب الحاسب المعلم
الفيلسوف العظيم شأنا
العائف القائف المعزم
الماهن الكاهن المعادي
صفحة غير معروفة